فصل: المُضْطَرِبُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


الشَّاذُّ

161‏.‏ وَذُو الشُّذُوذِ‏:‏ مَا يُخَالِفُ الثِّقَهْ *** فِيهِ المَلاَ فَالشَّافِعيُّ حقَّقَهْ

162‏.‏ والحَاكِمُ الخِلاَفَ فِيهِ ما اشْتَرَطْ *** وَلِلْخَلِيليْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَطْ

163‏.‏ وَرَدَّ مَا قَالاَ بِفَرْدِ الثِّقَةِ *** كالنَّهْي عَنْ بَيْعِ الوَلاَ وَالهِبَةِ

164‏.‏ وَقَوْلُ مُسْلِمٍ‏:‏ رَوَى الزُّهْرِيُّ *** تِسْعِينَ فَرْدَاً كُلُّهَا قَوِيُّ

165‏.‏ واخْتَارَ فِيْمَا لَمْ يُخَالِفْ أنَّ مَنْ *** يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَنْ

166‏.‏ أوْ بَلَغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ *** عَنْهُ فَمِمَّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدْ

اختلفَ أهلُ العلمِ بالحديثِ في صفةِ الحديثِ الشاذِّ، فقالَ الشافِعيُّ‏:‏ ليسَ الشاذُّ مِنَ الحديثِ أنْ يرويَ الثقةُ ما لا يروي غيرُهُ، وإنَّما أنْ يرويَ الثقةُ حديثاً يخالفُ ما روى الناسُ، وحكى أبو يعلى الخليليُّ عنْ جماعةٍ من أهلِ الحجازِ نحوَ هذا، وقالَ الحاكمُ‏:‏ «هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ ثقةٌ منَ الثقاتِ، وليسَ لهُ أصلٌ بمتابعٍ لذلكَ الثقةِ»‏.‏ فلمْ يشترطِ الحاكمُ فيهِ مخالفةَ الناسِ، وذَكَرَ أنَّهُ يغايرُ المعلَّلَ من حيثُ إِنَّ المعلَّلَ وُقِفَ على علَّتِهِ الدالةِ على جهةِ الوهمِ فيهِ، والشاذُّ لَمْ يُوقفْ فيهِ على علَّتِهِ كذلكَ‏.‏

وقالَ أبو يعلى الخليليُّ‏:‏ الذي عليهِ حفَّاظُ الحديثِ‏:‏ أنَّ الشاذَّ ما ليسَ لهُ إلاَّ إسنادٌ واحدٌ، يشذُّ بذلكَ شيخٌ، ثقةً كانَ أو غيرَ ثقةٍ، فما كانَ عنْ غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ لا يقبلُ، وما كانَ عنْ ثقةٍ يُتَوقَفُ فيهِ ولا يحتجُّ بهِ فَلمْ يشترطِ الخليليُّ في الشاذِّ تفردَ الثقةِ، بلْ مطلقُ التفردِ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ورَدَّ، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ ما قالَ الحاكمُ والخليليُّ بأفرادِ الثقاتِ الصحيحةِ، وبقولِ مسلمٍ الآتي ذكرُهُ، فقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «أمَّا ما حكمَ الشافعيُّ عليهِ بالشذوذِ، فلا إشكالَ في أنَّهُ شاذٌّ غيرُ مقبولٍ، قالَ‏:‏ وأمَّا ما حكيناهُ عنْ غيرِهِ فيشكِلُ بما ينفردُ بهِ العدلُ الحافظُ الضابطُ، كحديثِ‏:‏ «إنّما الأعمالُ بالنياتِ» ثمَّ ذكرَ مواضعَ التفردِ منهُ، ثمَّ قالَ‏:‏ وأوضحُ من ذلكَ في ذلكَ‏:‏ حديثُ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عنْ ابن عمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نهى عنْ بيعِ الولاءِ وهبتِهِ» تفرّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ‏.‏ وحديثُ مالكٍ، عنِ الزُّهريِّ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دخلَ مكَّةَ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ» تفرّد بهِ مالكٌ عنِ الزهريِّ‏.‏ فكلُّ هذهِ مُخرجةٌ في الصحيحينِ معَ أنَّها ليسَ لها إلاَّ إسنادٌ واحدٌ تفرَّدَ بهِ ثقةٌ، قالَ‏:‏ وفي غرائبِ الصحيحِ أشباهٌ لذلكَ غيرُ قليلةٍ، قالَ‏:‏ وقَدْ قالَ مسلمُ بنُ الحجّاجِ‏:‏ «للزُّهْريِّ نحوُ تسعينَ حرفاً يَرْوِيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا يُشَارِكُهُ فيها أحدٌ بأسانيدَ جِيادٍ» قالَ‏:‏ فهذا الذي ذكرناهُ وغيرُهُ من مذاهبِ أئمةِ الحديثِ يبينُ لكَ أنَّهُ ليسَ الأمرُ في ذلكَ على الإطلاقِ الذي أتى بهِ الخليليُّ والحاكمُ، بلِ الأمرُ في ذلكَ على تفصيلٍ نُبَيِّنُهُ فنقولُ‏:‏ إذا انفردَ الراوي بشيءٍ نُظِرَ فيهِ، فإنْ كانَ مخالفاً لما رواهُ مَنْ هوَ أولى منهُ بالحفظِ لذلكَ، وأضبطُ، كانَ ما انفردَ بهِ شاذّاً مردوداً، وإنْ لَمْ يكنْ فيهِ مخالفةٌ لما رواهُ غيرُهُ وإنّما هوَ أمرٌ رواهُ هوَ ولَمْ يَرْوِهِ غيرُهُ، فيُنْظَرُ في هذا الراوي المنفردِ، فإنْ كانَ عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانهِ وضبطِهِ قُبِلَ ما انفردَ بهِ ولَمْ يقدحِ الانفرادُ فيهِ كما سبقَ منَ الأمثلةِ، وإنْ لَمْ يكنْ ممَّنْ يُوثَقُ بحفظهِ وإتقانِهِ لذلكَ الذي انفرد بهِ، كانَ انفرادُهُ بهِ خارِماً لهُ مُزَحزِحاً لهُ عنْ حيِّزِ الصحيحِ، ثمَّ هوَ بعدَ ذلكَ دائرٌ بينَ مراتبَ متفاوتةٍ بحسبِ الحالِ فيهِ، فإنْ كانَ المنفردُ بهِ غيرَ بعيدٍ من درجةِ الحافظِ الضابطِ المقبولِ تفرّده، استحسنا حديثَهُ ذلكَ، ولَمْ نحّطْهُ إلى قبيلِ الحديثِ الضعيفِ، وإنْ كانَ بعيداً من ذلكَ ردَدْنَا ما انفردَ بهِ، وكانَ من قبيلِ الشَّاذِّ المنكرِ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا معنى قولِهِ‏:‏ ‏(‏واختارَ‏)‏، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ في الفردِ الذي لم يُخالِفْ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وَرُدْ‏)‏، هو أمرٌ معطوفٌ على قولِهِ‏:‏ ‏(‏فاطْرَحْهُ‏)‏، قالَ ابنُ الصَّلاحِ‏:‏ فخرجَ من ذلكَ أنَّ الشاذَّ المردودَ قسمانِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ الحديثُ الفردُ المخالفُ‏.‏

والثاني‏:‏ الفردُ الذي ليسَ في راويهِ منَ الثقةِ والضبطِ ما يقعُ جابراً لما يوجبُ التفردُ والشذوذُ من النكارةِ والضعفِ، واللهُ أعلمُ‏.‏ وسيأتي مثالٌ لقسمي الشَّاذِّ في البابِ الذي بعدَهُ‏.‏

الْمُنْكَرُ

167‏.‏ وَالْمُنكَرُ‏:‏ الفَرْدُ كَذَا البَرْدِيجِيْ *** أَطْلَقَ، وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيْجِ

168‏.‏ إِجْرَاءُ تَفْصِيْلٍ لَدَى الشُّذُوْذِ مَرْ *** فَهْوَ بِمَعْناهُ كَذَا الشَّيْخُ ذَكَرْ

169‏.‏ نَحْوَ «كُلُوا البَلَحَ بالتَّمْرِ» الخَبَرْ *** وَمَالِكٍ سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ‏:‏ عُمَرْ

170‏.‏ قُلْتُ‏:‏ فَمَاذَا‏؟‏ بَلْ حَدِيْثُ «نَزْعِهْ *** خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلاَ وَوَضْعِهْ»

قالَ الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ هارونَ البَرْديجيُّ‏:‏ المنكرُ هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ الرجلُ، ولا يُعرفُ متُنُه من غيرِ روايتِهِ، لا من الوجهِ الذي رواهُ منهُ ولا من وجهٍ آخرَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ فأطلقَ البرديجيُّ ذلكَ، ولمْ يفصِّلْ‏.‏ قالَ‏:‏ وإطلاقُ الحكمِ على التفرُّدِ بالرَّدِّ، أو النَّكارةِ، أو الشُّذوذِ، موجودٌ في كلامِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ‏.‏ قالَ‏:‏ والصوابُ فيهِ التّفصيلُ الذي بيناهُ آنفاً في شرحِ الشاذِّ، قالَ‏:‏ وعندَ هذا نقولُ‏:‏

المنكرُ ينقسم قسمينِ على ما ذكرناهُ في الشاذِّ، فإنَّهُ بمعناهُ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏نحو كُلوا …‏)‏ إلى آخرِ البيتِ هما مثالانِ للمنكرِ الذي هوَ بمعنى الشاذِّ‏.‏ فالأولُ مثالٌ للفردِ الذي ليسَ في راويهِ من الثقةِ والإتقانِ ما يحتملُ معهُ تفرُّدُهُ، وهوَ ما رواهُ النسائيُّ، وابنُ ماجه منْ روايةِ أبي زُكَيْرٍ يحيى بنِ محمّدِ بنِ قيسٍ عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ عنْ أبيهِ عنْ عائشةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «كلوا البَلَحَ بالتَّمْرِ، فإنَّ ابنَ آدمَ إذا أكلَهُ غَضِبَ الشيطانُ، … الحديثَ»، قالَ النسائيُّ هذا حديثٌ منكرٌ، قالَ ابنُ الصلاحِ تفرّدَ بهِ أبو زُكيرٍ، وهوَ شيخٌ صالحٌ أخرجَ عنه مسلمٌ في كتابِهِ غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يحتملُ تفرُّدُهُ انتهى‏.‏

وإنّما أخرجَ لهُ مسلمٌ في المتابعات‏.‏

والثاني‏:‏ مثالٌ للفردِ المخالفِ لما رواهُ الثقاتُ، وهوَ ما رواهُ مالكٌ، عنِ الزهريِّ، عنْ عليِّ بنِ حسينٍ، عنْ عمرَ بنِ عثمانَ، عنْ أُسامةَ بنِ زيدٍ، عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ»‏.‏ فخالفَ مالكٌ غيرَهُ منَ الثقاتِ في قولهِ‏:‏ عُمرَ بنِ عُثمانَ، يعني‏:‏ بضمِّ العينِ، وذكرَ مسلمٌ في ‏"‏ التمييز ‏"‏ أنَّ كلَّ مَنْ رواهُ منْ أصحابِ الزهريِّ قالَ فيهِ‏:‏ عَمْرو بنِ عثمانَ، يعني‏:‏ بفتح العينِ، وذكرَ أنَّ مالكاً كانَ يشيرُ بيدهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عثمانَ، كأنَّهُ علمَ أنَّهم يخالفونَهُ، وعَمرٌو و عُمَرُ جميعاً ولدا عثمانَ غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنّما هوَ عن عَمرٍو- بفتحِ العينِ- وحكمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ، هكذا مثَّلَ ابنُ الصلاحِ بهذا المثالِ، وفيهِ نظرٌ، منْ حيثُ إنَّ هذا الحديثَ ليسَ بمنكرٍ، ولمْ يطلقْ عليهِ أحدٌ اسمَ النكارةِ فيما رأيت والمتن ليسَ بمنكرٍ، وغايتُهُ أنْ يكونَ السندُ منكراً، أو شاذاً لمخالفةِ الثقاتِ لمالكٍ في ذلكَ، ولا يلزمُ من شذوذِ السندِ ونكارتِهِ وجودُ ذلكَ الوصفِ في المتنِ فقدْ ذكرَ ابنُ الصلاحِ في نوعِ المعللِ‏:‏ أنَّ العلةَ الواقعةَ في السندِ قدْ تقدحُ في المتنِ، وقدْ لا تقدحُ ومثَّلَ ما لا تقدحُ بما رواهُ يعلى بنُ عُبيدٍ، عنِ الثَّوريِّ، عنْ عَمرِو بنِ دينارٍ، عنِ ابنِ عُمرَ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «البَيِّعَانِ بالخِيَار» قالَ‏:‏ فهذا إسنادٌ معلَّلٌ غيرُ صحيحٍ، والمتنُ على كلِّ حالٍ صحيحٌ، قالَ‏:‏ والعلّةُ في قولهِ عن عَمرِو بنِ دينارٍ، وإنّما هوَ عنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ‏.‏ انتهى‏.‏ فحكمَ على المتنِ بالصحةِ معَ الحكمِ بوهمِ يعلى بنِ عُبيدٍ فيهِ وإلى هذا الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏قلتُ‏:‏ فماذا‏)‏، وإذا قالَ مالكٌ‏:‏ عُمَرَ بنَ عثمانَ، فماذا‏؟‏ أي‏:‏ فما يلزمُ منهُ من نكارةِ المتنِ‏.‏

ثمَّ أشرتُ إِلَى مثالٍ صحيحٍ لأحدِ قسمَيْ المنكرِ، بقولي‏:‏ ‏(‏بَلْ حَدِيْث نزعه …‏)‏ إلى آخرهِ، أي‏:‏ بل هذا الحديثُ مثالٌ لهذا القسمِ من المنكر، وهوَ ما رواهُ أصحابُ السننِ الأربعةِ من روايةِ همّامِ بنِ يحيى عنِ ابنِ جريجٍ عن الزُّهريِّ عن أنسٍ، قالَ‏:‏ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم «إذا دَخَلَ الخلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ»، قالَ أبو داودَ بعدَ تخريجهِ‏:‏ هذا حديثٌ منكرٌ، قالَ‏:‏ وإنّما يُعْرَفُ عنِ ابنِ جُرَيجٍ، عنْ زيادِ بنِ سعدٍ، عنِ الزهريِّ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتّخذَ خاتماً منْ وَرِقٍ، ثمَّ ألقاهُ»، قالَ‏:‏ والوهمُ فيهِ من همّامٍ، ولمْ يروِهِ إلاَّ همّامٌ، وقالَ النسائيُّ بعدَ تخريجهِ‏:‏ هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ انتهى‏.‏ فهمّامُ بنُ يحيى ثقةٌ، احتجَّ بهِ أهلُ الصحيحِ، ولكنَّهُ خالفَ الناسَ، فروى عنِ ابنِ جريجٍ هذَا المتنَ بهذا السندِ وإنّما رَوَى الناسُ عنِ ابنِ جريجٍ الحديثَ الذي أشارَ إليهِ أبو داودَ، ولهذا حكمَ عليهِ أبو داودَ بالنكارةِ، وأما الترمذيُّ فقالَ فيه‏:‏ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ‏.‏

الاعْتِبَارُ وَالمُتَابَعَاتُ وَالشَّوَاهِدُ

171‏.‏ الاعْتِبَارُ سَبْرُكَ الحَدِيْثَ هَلْ *** شَارَكَ رَاوٍ غَيْرَهُ فيْمَا حَمَلْ

172‏.‏ عَنْ شَيْخِهِ فَإنْ يَكُنْ شُوْرِكَ مِنْ *** مُعْتَبَرٍ بِهِ فَتَابِعٌ، وَإنْ

173‏.‏ شُورِكَ شَيْخُهُ فَفَوْقُ فَكَذَا *** وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدَاً ثُمَّ إذَا

174‏.‏ مَتْنٌ بِمَعْنَاهُ أتَى فَالشَّاهِدُ *** وَمَا خَلاَ عَنْ كُلِّ ذَا مَفَارِدُ

175‏.‏ مِثَالُهُ «لَوْ أَخَذُوا إهَابَهَا» *** فَلَفْظَةُ «الدِّبَاغِ» مَا أتَى بِهَا

176‏.‏ عَنْ عَمْرٍو الاَّ ابنُ عُيَيْنَةٍ وَقَدْ *** تُوبِعَ عَمْروٌ في الدِّبَاغِ فَاعْتُضِدْ

177‏.‏ ثُمَّ وَجَدْنَا «أَيُّمَا إِهَابِ» *** فَكَانَ فيهِ شَاهِدٌ في البابِ

هذهِ الألفاظُ يتداولها أهلُ الحديثِ بينَهم‏.‏

فالاعتبارُ‏:‏ أنْ تأتيَ إلى حديثٍ لبعضِ الرواةِ، فتعتبرُه برواياتِ غيرِهِ منَ الرواةِ بسبرِ طُرُقِ الحديثِ ليُعرفَ هلْ شاركَهُ في ذلكَ الحديثِ راوٍ غيرُهُ فرواهُ عنْ شيخِهِ أمْ لا‏؟‏

فإنْ يَكنْ شاركَهُ أحدٌ ممَّنْ يُعتبرُ بحديثهِ، أيْ‏:‏ يصلحُ أنْ يخرجَ حديثُه للاعتبارِ بهِ والاستشهادِ بهِ، فيسمَّى حديثُ هَذَا الَّذِي شاركَهُ تابعاً- وسيأتي بيانُ مَنْ يعتبرُ بحديثهِ في مراتبِ الجرحِ والتعديلِ- وإنْ لمْ تجدْ أحداً تابعَهُ عليهِ عنْ شيخهِ فانظرْ هلْ تابعَ أحدٌ شيخَ شيخِهِ فرواهُ متابعاً لهُ أمْ لاَ‏؟‏ إنْ وجدتَ أحداً تابعَ شيخَ شيخِهِ عليهِ، فرواهُ كما رواهُ فسمِّهِ أيضاً تابعاً‏.‏ وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً، وإنْ لمْ تجدْ فافعلْ ذلكَ فيمنْ فوقَهُ إلى آخرِ الإسنادِ حتَّى في الصحابيِّ، فكلُّ مَنْ وُجِدَ لهُ متابعٌ فسمِّهِ تابعاً‏.‏ وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً، كما تقدَّمَ، فإنْ لَمْ تَجدْ لأحدٍ ممَّنْ فَوقَهُ متابعاً عليهِ فانظرْ هلْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ في البابِ أمْ لا‏؟‏ فإنْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ فسمِّ ذلكَ الحديثَ شاهداً، وإنْ لَمْ تجدْ حديثاً آخرَ يؤدِّي معناهُ، فقد عُدِمَتِ المتابعاتُ والشواهدُ‏.‏ فالحديثُ إذاً فردٌ‏.‏ قالَ ابنُ حبَّانَ‏:‏ وطريقُ الاعتبارِ في الأخبارِ، مثالُهُ أنْ يرويَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ حديثاً لَمْ يُتابعْ عليهِ، عنْ أيُّوبَ، عنِ ابنِ سِيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيُنْظرَ‏:‏ هلْ روى ذلكَ ثقةٌ غيرُ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ‏؟‏ فإنْ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ للخبرِ أصلاً يُرْجَعُ إليهِ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ ذلكَ، فثِقَةٌ غيرُ ابنِ سيرينَ رواهُ عنْ أبي هريرةَ، وإلاَّ فصحابيٌّ غيرُ أبي هريرةَ، رواهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأيُّ ذلكَ وُجِدَ يُعْلَمُ بهِ أنَّ للحديثِ أصلاً يرجعُ إليهِ، وإلاَّ فَلاَ‏.‏ انتهى‏.‏ قلتُ‏:‏ فمثالُ مَا عُدِمَتْ فيهِ المتابعاتُ من هَذَا الوجهِ من وجهٍ يثبتُ ما رواهُ الترمذيُّ منْ روايةِ حمّادِ بنِ سَلَمَةَ، عنْ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، أراهُ رَفَعَهُ‏:‏ «احببْ حبيبكَ هوناً مَا، … الحديثَ»‏.‏ قالَ الترمذيُّ‏:‏ حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ بهذا الإسنادِ إلاَّ منْ هَذَا الوجهِ‏.‏ قلتُ‏:‏ أيْ من وجهٍ يثبتُ، وقدْ رواهُ الحسنُ بنُ دينارٍ، وهوَ متروكُ الحديثِ، عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، قالَ ابنُ عَدِيٍّ في ‏"‏ الكاملِ ‏"‏‏:‏ «ولا أعلمُ أحداً قالَ عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ إلاَّ الحسنَ بنَ دينارٍ‏.‏ ومن حديثِ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، رواهُ حمادُ بنُ سلمةَ، ويرويهِ الحسنُ بنُ أبي جعفرٍ، عنْ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ عنْ حُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الحِمْيريِّ، عنْ عليٍّ مرفوعاً‏.‏ انتهى‏.‏

والحسنُ بنُ أبي جعفرٍ منكرُ الحديثِ، قالَهُ البخاريُّ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏مثالُه لو أخذوا إهابها‏)‏، هذا مثالٌ لما وُجِدَ لهُ تابعٌ وشاهدٌ أيضاً‏.‏ وهوَ مَا روى مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عُيينةَ، عنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ، عنْ عطاءٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، أنَّ رسولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَلاَّ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ»، فلمْ يذكرْ فيهِ أحدٌ منْ أصحابِ عمرِو بنِ دينارٍ‏:‏ فدبغوهُ، إلاَّ ابنُ عيينةَ‏.‏ وقدْ رواهُ إبراهيمُ بنُ نافعٍ المكيُّ عن عمرٍو، فلمْ يذكرِ الدِّباغَ‏.‏ وقولُ ابنِ الصلاحِ‏:‏ ورواهُ ابنُ جريجٍ عن عمرٍو، عنْ عطاءٍ، ولَمْ يذكرْ فيهِ الدِّباغَ، يوهمُ موافقةَ روايةِ ابنِ جريجٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ في السندِ وليسَ كذلكَ، فإنَّ ابنَ جريجٍ زادَ في السندِ ميمونةَ فجعلهُ من مسندها‏.‏ وفي روايةِ ابنِ عيينةَ أنَّهُ من مسندِ ابنِ عبّاسٍ، فلهذا مَثَّلْتُ‏:‏ بإبراهيمَ بنِ نافعٍ، واللهُ أعلمُ‏.‏ فَنَظَرنَا هلْ نجدُ أحداً تابعَ شيخَهُ عمرَو بنَ دينارٍ على ذكرِ الدباغِ فيهِ، عنْ عطاءٍ أمْ لاَ‏؟‏ فوجدنا أسامةَ بنَ زيدٍ الليثيَّ تابعَ عَمْرَاً عليهِ‏.‏ ورواهُ الدارقطنيُّ والبيهقيُّ من طريقِ ابنِ وَهْبٍ، عنْ أسامةَ، عنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ‏:‏ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأهلِ شاةٍ ماتتْ‏:‏ «ألا نزعتُمْ إِهَابَهَا فدبَغْتُمُوهُ، فانتَفَعْتُمْ بهِ»‏.‏

قالَ البيهقيُّ وهكذا رواهُ الليثُ بنُ سعدٍ، عنْ يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عنْ عطاءٍ‏.‏ وكذلكَ رواهُ يحيى بنُ سعيدٍ، عنِ ابنِ جريجٍ، عنْ عطاءٍ‏.‏

فكانتْ هذهِ متابعاتٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ‏.‏ ثمَّ نظرْنَا فوجَدْنَا لها شاهداً، وهوَ ما رواهُ مسلمٌ وأصحابُ السُّننِ من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ وَعْلةَ المصريِّ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قالَ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فقدْ طَهُرَ»‏.‏

زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ

178‏.‏ وَاقْبَلْ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مِنْهُمُ *** وَمَنْ سِوَاهُمْ فَعَلَيْهِ المُعْظَمُ

179‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ لاَ، وَقِيْلَ‏:‏ لاَ مِنْهُمْ وَقَدْ *** قَسَّمَهُ الشَّيْخُ، فَقَالَ‏:‏ مَا انْفَرَدْ

180‏.‏ دُوْنَ الثِّقَاتِ ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ *** فِيْهِ صَرِيْحاً فَهْوَ رَدٌّ عِنْدَهُمْ

181‏.‏ أَوْ لَمْ يُخَالِفْ، فَاقْبَلَنْهُ وَادَّعَى *** فِيْهِ الخَطِيْبُ الاتِّفَاقَ مُجْمَعَا

182‏.‏ أَوْ خَالَفَ الاطْلاَقَ نَحْوُ «جُعِلَتْ *** تُرْبَةُ الارْضِ» فَهْيَ فَرْدٌ نُقِلَتْ

183‏.‏ فَالْشَّافِعِيْ وَأَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا *** وَالوَصْلُ والارْسَالُ مِنْ ذَا أُخِذَا

184‏.‏ لَكِنَّ في الإرْسَالِ جَرْحاً فَاقْتَضَى *** تَقْدِيْمَهُ وَرُدَّ أنَّ مُقْتَضَى

185‏.‏ هَذَا قَبُولُ الوَصْلِ إذْ فِيْهِ وَفِيْ *** الجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِيْ

مَعْرِفةُ زياداتِ الثِّقاتِ فنٌّ لطيفٌ، يُسْتَحسَنُ العِنايةُ بهِ‏.‏ وَقدْ كانَ الفقيهُ أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ زيادٍ النَّيْسابوريُّ مشهوراً بمعرفةِ ذلكَ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ كانَ يعرفُ زياداتِ الألفاظِ في المتونِ، وكذلكَ أبو الوليدِ حسّانُ بنُ محمدٍ القرشيُّ النيسابوريُّ‏.‏ تلميذُ ابنِ سُرَيْجٍ وغيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ‏.‏

واخْتُلِفَ في زيادةِ الثقةِ على أقوالٍ‏:‏

فذهبَ الجمهورُ منَ الفقهاءِ وأصحابِ الحديثِ، كما حكاهُ الخطيبُ عنهم، إلى قبولها سواءٌ تعلقَ بها حكمٌ شرعيٌّ أمْ لا‏.‏ وسواءٌ غَيَّرَتِ الحكمَ الثابتَ، أمْ لاَ، وسواءٌ أوْجبتْ نقصاً منَ أحكامٍ ثبتتْ بخبرٍ ليستْ فِيْهِ تلكَ الزيادةُ أم لا‏.‏ وسواءٌ كانَ ذلكَ من شخصٍ واحدٍ بأنْ رواهُ مرّةً ناقصاً، ومرةً بتلكَ الزيادةِ، أو كانتْ الزيادةُ منْ غيرِ مَنْ رواهُ ناقصاً‏.‏ وهذا معنى قولي‏:‏ ‏(‏وَمَنْ سواهُمْ‏)‏ أيْ‏:‏ وَمَنْ سوَى منْ زادَها بشرطِ كونِهِ ثقةً؛ لأنَّ الفصلَ معقودٌ لزيادةِ الثقةِ، لا أنَّ المرادَ‏:‏ ومَنْ سوى الثقاتِ‏.‏ وقدِ ادَّعى ابنُ طاهرٍ الاتفاقَ على هذا القولِ عندَ أهلِ الحديثِ، فقالَ في ‏"‏مسألةِ الانتصارِ‏"‏‏:‏ لا خلافَ تجدُهُ بينَ أهلِ الصنعةِ أنَّ الزيادةَ منَ الثقةِ مقبولةٌ انتهى‏.‏ وشَرَطَ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ منَ الشافعيَّةِ وكذلك الخطيبُ في قبولِ الزيادةِ كونَ مَنْ رواها حافظاً‏.‏ وشَرَطَ ابنُ الصَّبَّاغِ في ‏"‏ العُدَّةِ ‏"‏ منهم، ألاَّ يكونَ مَنْ نقلَ الزيادةَ واحداً، ومَنْ رواهُ ناقصاً جماعةٌ لا يجوزُ عليهمُ الوهمُ، فإنْ كانَ كذلكَ سقطتِ الزيادةُ وقالَ ذلكَ فيما إذا روياهُ عنْ مجلسٍ واحدٍ، فإنْ روياهُ عنْ مجلسينِ كانا خبرينِ وعُمِلَ بهِمَا‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ أنَّها لا تقبلُ مطلقاً لا ممَّنْ رواهُ ناقصاً ولاَ مِنْ غيرِهِ حُكيَ ذلكَ عن قومٍ منْ أصحابِ الحديثِ فيما ذَكَرَهُ الخطيبُ في ‏"‏الكفايةِ‏"‏ وابنُ الصبّاغِ في ‏"‏العُدَّة‏"‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنْ لا يكونَ فيهِ منافاةٌ ومخالفةٌ أصلاً لما رواهُ غيرُهُ، كالحديثِ الذي تفرّدَ بروايةِ جملتِهِ ثقةٌ، ولاَ تعرض فيهِ لما رواهُ الغيرُ بمخالفةِ أصلٍ‏.‏

فهذا مقبول، وقدِ ادَّعى الخطيبُفيهِ اتفاقَ العلماءِ عليهِ، وسبقَ مثالهُ في نوعِ الشاذِّ‏.‏

الثالثُ‏:‏ ما يقعُ بينَ هاتينِ المرتبتينِ، مثلُ زيادةِ لفظةٍ في حديثٍ لَمْ يذكرْهَا سائرُ مَنْ روى ذلكَ الحديثَ، مثالُهُ ما رواهُ مالكٌ عنْ نافِعٍ، عنِ ابنِ عمرَ‏:‏ أنَّ رسولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فرضَ زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على كلِّ حرِّ، أو عبدٍ، ذكرٍ، أو أنثى منَ المسلمينَ»، فذكرَ أبو عيسى الترمذيُّ‏:‏ أنَّ مالكاً انفردَ من بينِ الثقاتِ بزيادةِ قولِهِ‏:‏ «منَ المسلمينَ»‏.‏ وروى عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ، وأيوبُ، وغيرُهما هذا الحديثَ عنْ نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ دونَ هذهِ الزيادةِ، فأخذَ بها غيرُ واحدٍ منَ الأئمةَ، واحتجوا بها منهم‏:‏ الشافعيُّ وأحمدُ رضي اللهُ عنهما‏.‏ قالَ‏:‏ ومنْ أمثلةِ ذلكَ‏:‏ «جُعلَتْ لنا الأرضُ مسجداً وَجُعِلَتْ تربتها لنا طهوراً»‏.‏ فهذهِ الزيادةُ تفرَّدَ بها أبو مالكٍ سعدُ بنُ طارقٍ الأشجعيُّ، وسائرُ الرواياتِ لفظها‏:‏ «وجُعلتْ لنا الأرضُ مسجداً وطهوراً»‏.‏ قالَ‏:‏ فهذا وما أشبهَهُ يشبهُ القسمَ الأولَ من حيثُ إنَّ ما رواهُ الجماعةُ عامٌّ، وما رواهُ المنفردُ بالزيادةِ مخصوصٌ، وفي ذلكَ مغايرةٌ في الصفةِ، ونوعٌ منَ المخالفةِ يختلفُ بهِ الحكمُ‏.‏ ويشبهُ أيضاً القسمَ الثانيَ من حيثُ إنَّهُ لا منافاةَ بينهما انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ، واقتصرَ على المثالِ الثاني؛ لأنَّهُ صحيحٌ، كما ذكرَ‏:‏ تفرّدَ بالزيادةِ سعدُ بنُ طارقٍ أبو مالكٍ الأشجعيُّ، والحديثُ رواهُ مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ الأشجعيِّ عنْ رِبْعي، عن حذيفةَ‏.‏ وأما المثالُ الأولُ فلاَ يصحُّ؛ لأنَّ مالكاً لم ينفردْ بالزيادةِ، بلْ تابعهُ عليها عمرُ بنُ نافعٍ، والضحاكُ بنُ عثمانَ، ويونسُ بنُ يزيدَ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ، والمُعَلَّى بنُ إسماعيلَ، وكثيرُ بنُ فَرْقدٍ‏.‏ واختُلِفَ في زيادتها على عُبيدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأيوبَ‏.‏ وقدْ بينتُ هذهِ الطرقَ في ‏"‏ النكتِ ‏"‏ التي جمعتُها على كتابِ ابنِ الصَّلاحِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏والوصل والإرسال من ذا أخذ‏)‏ أي‏:‏ إنَّ تعارضَ الوصلِ والإرسال نوعٌ من زيادةِ الثقةِ؛ لأنَّ الوصلَ زيادةُ ثقةٍ، وقدْ تقدّمَ أنَّ الخطيبَ حَكَى عن أكثرِ أهلِ الحديثِ أنَّ الحكمَ لِمَنْ أرسلَ‏.‏وقالَابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّ بينَ الوصلِ والإرسال مِنَ المخالفةِ نحوَ ما ذكرناهُ، أي‏:‏ في القسمِ الثالثِ‏.‏قالَ‏:‏ ويزدادُ ذلكَ بأن الإرسالَ نوعُ قدحٍ في الحديثِ، فترجيحُهُ، وتقديمُهُ من قبيلِ تقديمِ الجرحِ على التعديلِ‏.‏ قالَ‏:‏ ويجابُ عنهُ بأنَّ الجرحَ قُدِّمَ لما فيهِ من زيادةِ العلمِ‏.‏ والزيادةُ هاهنا معَ مَنْ وصلَ، واللهُ أعلمُ‏.‏

والقولُ الثالثُ‏:‏ أنّها لا تقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً، وتقبلُ مِنْ غيْرِهِ منَ الثقاتِ، حكاهُ الخطيبُ عن فرقةٍ منَ الشافعيةِ‏.‏

وهوَ المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏وقيل‏:‏ لا منهم‏)‏ أي‏:‏ لا يقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً، ثمَّ رواهُ بتلكَ الزيادةِ، أو رواهُ بالزيادةِ، ثمَّ رواهُ ناقصاً‏.‏ وذكرَ ابنُ الصبّاغِ في ‏"‏ العدّةِ ‏"‏ فيما إذا روى الواحدُ خبراً، ثمَّ رواهُ بعدَ ذلكَ بزيادةٍ، فإنْ ذكرَ أنَّهُ سمعَ كلَّ واحدٍ منَ الخبرينِ في مجلسينِ، قُبلَتِ الزيادةُ، وإنْ عزى ذلكَ إلى مجلسٍ واحدٍ وتكررتْ روايتُهُ بغيرِ زيادةٍ ثمَّ روى الزيادةَ‏.‏ فإنْ قالَ‏:‏ كنتُ أُنسيتُ هذهِ الزيادةَ قُبِلَ منهُ، وإنْ لَمْ يقلْ ذلكَ وجبَ التوقّفُ في الزيادةِ‏.‏

وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ‏:‏ أنَّهُ إنْ كانتِ الزيادةُ مغيرةً للإعرابِ، كانَ الخبرانِ متعارضينِ، وإنْ لَمْ تُغَيِّرِ الإعرابَ قُبِلتْ‏.‏ حكاهُ ابنُ الصبّاغُ عنْ بَعضِ المتكلمينَ‏.‏

وفيها قولٌ خامسٌ‏:‏ أنَّها لا تقبلُ إلاَّ إذا أفادتْ حكماً‏.‏

وفيها قولٌ سادسٌ‏:‏ أنَّها تقبلُ في اللفظِ دونَ المعنى، حكاهما الخطيبُ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وقد قسَّمهُ الشيخُ‏)‏ أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ، فقالَ‏:‏ قدْ رأيتُ تقسيمَ ما ينفردُ بهِ الثقةُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ ما يقعُ مخالفاً منافياً لما رواهُ سائرُ الثقاتِ، فهذا حكمهُ الردُّ، كما سبقَ في نوعِ الشاذِّ‏.‏

الأفْرَاْدُ

186‏.‏ الفَرْدُ قِسْمَانِ، فَفَرْدٌ مُطْلَقا *** وَحُكْمُهُ عِنْدَ الشُّذُوْذِ سَبَقا

187‏.‏ وَالفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ‏:‏ مَا قَيَّدْتَهُ *** بِثِقَةٍ، أوْ بَلَدٍ ذَكَرْتَهُ

188‏.‏ أوْ عَنْ فُلانٍ نَحْوُ قَوْلِ القَائِلْ *** لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ‏(‏بَكْرٍ‏)‏ الاَّ ‏(‏وَائِلْ‏)‏

189‏.‏ لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ الاّ ‏(‏ضَمْرَهْ‏)‏ *** لَمْ يَرْوِ هَذَا غيرُ أهْلِ البَصْرَهْ

190‏.‏ فَإنْ يُرِيْدُوا وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا *** تَجَوُّزاً، فاجْعَلْهُ مِنْ أوَّلهِا

191‏.‏ وَلَيْسَ في أفْرَادِهِ النِّسْبِيَّهْ *** ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الحَيْثِيَّهْ

192‏.‏ لَكِنْ إذَا قَيَّدَ ذَاكَ بِالثِّقَهْ *** فَحُكْمُهُ يَقْرُبُ مِمَّا أطْلَقَهْ

الأفرادُ منقسمةٌ إلى‏:‏ ما هو فردٌ مطلقاً، وهو ما ينفردُ به واحدٌ عن كُلِّ أحدٍ‏.‏ وقد سبقَ حكمُهُ ومثالُهُ في قسمِ الشاذِّ‏.‏ وإلى ما هو فردٌ بالنسبةِ إلى جهةٍ خاصّةٍ‏.‏ كتقييدِ الفرديةِ بثقةٍ، أو بلدٍ معيَّنٍ، كمكَّةَ والبصرةِ، والكوفةِ، أو بكونهِ لم يروِهِ من أهلِ البصرةِ، أو الكوفةِ- مثلاً- إلاّ فلانٌ، أو لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ‏.‏ ونحوِ ذلك‏.‏ فمثالُ تقييدِ الانفرادِ بكونهِ لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ‏:‏ حديثٌ رواهُ أصحابُ السُّنن الأربعةِ منِ طريق سفيانَ بنِ عُيينةَ، عن وائلِ بنِ داودَ، عن ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ، عن الزهريِّ، عن أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أوْلَمَ على صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ، وتَمْرٍ»‏.‏ قالَ الترمذيُّ‏:‏ حديثٌ غريبٌ‏.‏ وقالَ ابنُ طاهرٍ في أطرافِ الغرائبِ‏:‏ غريبٌ من حديثِ بكرِ بنِ وائلٍ عنه‏.‏ تفرّدَ به وائلُ بنُ داودَ، ولم يروِهِ عنه غيرُ سفيانَ بنِ عيينةَ‏.‏ انتهى‏.‏ فلا يلزمُ من تفرّدِ وائلٍ به عن ابنهِ بكرٍ تفرّدُهُ به مطلقاً‏.‏ فقد ذكرَ الدارقطنيُّ في ‏"‏ العللِ ‏"‏ أنهُ رواهُ محمّدُ بن الصَّلْتِ التَّوَّزيُّ، عن ابنِ عُيينةَ، عن زيادِ بنِ سعدٍ، عن الزهريِّ، قال‏:‏ ولم يتابعْ عليهِ‏.‏ والمحفوظُ عن ابنِ عُيينةَ، عن وائلٍ، عن ابنِهِ‏.‏ ورواهُ جماعةٌ عن ابنِ عيينةَ، عن الزهريِّ بغيرِ واسطةٍ‏.‏

ومثالُ تقييدِ الانفرادِ بالثقةِ‏:‏ حديثُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ في الأضحى،

والفطرِ‏:‏ بِقَافْ، واقتربتِ الساعةُ‏.‏ رواه مسلمُ وأصحابُ السنَنِ من روايةِ ضَمْرةَ بنِ سعيدٍ المازنيِّ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ، عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذا الحديثُ لم يروِهِ أحدٌ من الثقاتِ إلا ضَمْرَةَ‏.‏

قالَ شيخُنا علاءُ الدينِ ابنُ التركمانيِّ في ‏"‏ الدرِّ النقي ‏"‏‏:‏ مدارُهُ على ضَمْرةَ- يريدُ حديثَ أبي واقدٍ-‏.‏ وإنّما قيّدتُ هذا الحديثَ بقولي‏:‏ أحدٌ من الثقاتِ؛ لأنَّ الدارقطنيَّ رواهُ من روايةِ ابنِ لَهِيعَةَ، عن خالدِ بنِ يزيدٍ، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وابنُ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ الجمهورُ‏.‏

ومثالُ ما انفردَ به أهلُ بلدةٍ‏:‏ ما رواهُ أبو داودَ عن أبي الوليدِ الطيالسيِّ، عن همَّامٍ، عن قَتَادةَ، عن أبي نَضْرةَ، عن أبي سعيدٍ، قال‏:‏ «أمرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نقرأَ بفاتحةِ الكتابِ، وما تَيَسَّرَ»‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ تفرّدَ بذكرِ الأمرِ فيهِ أهلُ البصرةِ من أولِ الإسنادِ إلى آخرِه‏.‏ ولم يشركْهم في هذا اللفظِ سِواهم‏.‏ ونحوُ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في صِفةِ وُضوءِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وَمَسحَ رأسَهُ بماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ» رواهُ مسلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ هذهِ سنةٌ غريبةٌ تفرّدَ بها أهلُ مصرَ ولم يشاركهُم فيها أحدٌ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏فإنْ يُريدوا واحداً من أهلِها‏)‏ أي‏:‏ فإن يريدوا بقولهم‏:‏ انفردَ بهِ أهلُ البصرةِ، أو هو من أفرادِ البصريين، ونحوَ ذلك واحداً من أهلِ البصرةِ انفردَ به متجوّزينَ بذلك كما يضافُ فعلُ واحدٍ من قبيلةٍ إليها مجازاً فاجعلْه من القسمِ الأولِ، وهو الفردُ المطلقُ‏.‏ مثالُهُ ما تقدّمَ عند ذكرِ المنكرِ من روايةِ أبي زُكَيْرٍ، عن هِشامِ بنِ عروةَ، عن أبيهِ، عن عائشة مرفوعاً‏:‏ كُلوا البلحَ بالتمرِ … الحديثَ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ هو من أفرادِ البصريينَ عن المدنيينَ تفرّدَ به أبو زُكيرٍ، عن هشامِ بنِ عُروة‏.‏ انتهى‏.‏ فجعلَهُ من أفرادِ البصريينَ، وأرادَ به واحداً منهم‏.‏

وليس في أقسامِ الفردِ المقيّدِ بنسبةٍ إلى جهةٍ خاصّةٍ ما يقتضي الحكمَ بِضَعْفِها من حيثُ كونُها أفراداً، لكن إذا كانَ القيدُ بالنسبةِ لروايةِ الثقةِ كقولِهِم‏:‏ لم يروِهِ ثقةٌ إلاّ فلانٌ، فإنَّ حكمَهُ قريبٌ من حكمِ الفردِ المطلقِ؛ لأنَّ روايةَ غيرِ الثقةِ كَلا روايةٍ، إلا أنْ يكونَ قَدْ بلغَ رتبةَ مَنْ يُعتبرُ بحديثه‏.‏ فلهذا قِيْلَ‏:‏ ‏(‏يقربُ‏)‏‏.‏ ولم يُجعَلْ حكمُه حكمَ الفردِ المطلقِ من كُلِّ وجهٍ‏.‏

المُعَلَّلُ

193‏.‏ وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُوْلُ *** مُعَلَّلاً، وَلاَ تَقُلْ‏:‏ مَعْلُوْلُ

194‏.‏ وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنَ اسْبَابٍ طَرَتْ *** فِيْهَا غُمُوْضٌ وَخَفَاءٌ أثَّرَتْ

195‏.‏ تُدْرَكُ بِالخِلاَفِ وَالتَّفَرُّدِ *** مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ، يَهْتَدِيْ

196‏.‏ جِهْبِذُهَا إلى اطِّلاَعِهِ عَلَى *** تَصْويْبِ إرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلاَ

197‏.‏ أوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ، أوْ مَتْنٍ دَخَلْ *** في غَيْرِهِ، أوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ

198‏.‏ ظَنَّ فَأمْضَى، أوْ وَقَفْ فأحْجَمَا *** مَعْ كَوْنِهِ ظَاهِرَهُ أنْ سَلِمَا

أي‏:‏ وسمِّ الحديثَ الذي شملتْهُ علّةٌ من عللِ الحديثِ معلَّلاً‏.‏ ولا تسمِّهِ معلولاً‏.‏ وقد وقعَ في عبارةِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ تسمّيتُهُ بالمعلولِ‏.‏ وذلك موجودٌ في كلامِ الترمذيِّ، وابنِ عَدِيٍّ، والدارقطنيِّ، وأبي يعلى الخليليِّ، والحاكمِ وغيرِهم‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وذلك منهم، ومن الفقهاءِ في قولهم في باب القياس‏:‏ العلّةُ والمعلولُ مرذولٌ عند أهلِ العربية واللغة»‏.‏ وقال النوويُّ‏:‏ «إنّهُ لَحْنٌ»‏.‏ قلتُ‏:‏ والأجودُ في تسميتِهِ‏:‏ المُعَلُّ‏.‏ وكذلك هو في عبارةِ بعضِهم‏.‏ وأكثرُ عباراتِهم في الفعلِ منه، أنَّهم يقولون‏:‏ أعَلَّهُ فلانٌ بكذا‏.‏ وقياسُهُ‏:‏ مُعَلٌّ‏.‏ وهو المعروفُ في اللغةِ‏.‏ قالَ الجوهريُّ‏:‏ لا أعلَّكَ اللهُ، أي‏:‏ لا أصابَكَ بعِلَّةٍ‏.‏ وقالَ صاحبُ المحكمِ‏:‏ واستعملَ أبو إسحاقَ لفظةَ المَعْلولِ في المُتَقارِبِ من «العَروضِ»‏.‏ ثم قال‏:‏ والمتكلِّمونَ يستعمِلونَ لفظةَ المعلولِ في مثلِ هذا كثيراً‏.‏ قال‏:‏ وبالجملةِ فَلَسْتُ منه على ثِقَةٍ ولا ثَلَجٍ؛ لأنَّ المعروفَ إنّما هو أعلَّهُ اللهُ، فهو مُعَلٌّ‏.‏ اللهمَّ إلاَّ أنْ يكونَ على ما ذهبَ إليه سيبويهِ، من قولِهم‏:‏ مَجْنُونٌ، ومَسلولٌ من أنّهما جاءا على جَنَنْتُه وسَللْتُه؛ وإنْ لم يُستَعملا في الكلام استُغنيَ عنهما بـ‏:‏ أفعلْتُ، قالوا‏:‏ وإذا قالوا‏:‏ جُنَّ وَسُلَّ‏.‏ فإنّما يقولونَ جُعِلَ فيه الجُنونُ والسِّلُّ‏.‏ كما قالوا‏:‏ حُرِقَ وفُسِلَ‏.‏ انتهى‏.‏

وأمّا عَلَّلَهُ، فإنّما يستعملُها أهلُ اللغةِ بمعنى‏:‏ ألهاهُ بالشيءِ وشغلَهُ به‏.‏ من تعليلِ الصبيِّ بالطعامِ‏.‏

والعلّةُ عبارةٌ عن أسبابٍ خفيةٍ غامضةٍ، طرأتْ على الحديثِ، فأثّرتْ فيه، أي‏:‏ قدحتْ في صحتِهِ‏.‏ وحذفتْ همزةُ طرأت في النَّظْمِ تخفيفاً، وأنشدَ الأخفشُ‏:‏

إذَا قَلَّ مَاْلُ المَرْءِ قَلَّ صَدِيْقُهُ واوْمَتْ إليهِ بِالعُيُوْبِ الأصَاْبعُ

حكاهُ صاحبُ المحكمِ في مادةِ‏:‏ روى، مثالاً لحرف الروي‏.‏

وتدركُ العلةُ بتفردِ الراوي، وبمخالفةِ غيرِهِ له، مع قرائنَ تنضمُّ إلى ذلك يهتدي الجهبذُ، أي‏:‏ الناقدُ بذلك إلى اطلاعِهِ على إرسالِ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوعِ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، أو وهمِ واهمٍ بغيرِ ذلكَ، بحيثُ غلبَ على ظنِّهِ ذلك، فأمضاهُ، وحكمَ بهِ، أو تردَّدَ في ذلك فوقف وأحْجَمَ عن الحكمِ بصحةِ الحديثِ‏.‏ وإنْ لم يغلبْ على ظنهِ صحةُ التعليلِ بذلك مع كونِ الحديثِ المعلِّ ظاهرهُ السلامةُ من العلّةِ‏.‏

وإنْ، في قولي‏:‏ ‏(‏إنْ سلما‏)‏، مصدريةٌ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ السبيلُ إلى معرفةِ علةِ الحديثِ أنْ تجمعَ بين طرقِهِ، وتنظرَ في اختلافِ رواتِهِ، وتعتبرَ بمكانهِم من الحفظِ، ومنزلتِهِم في الإتقانِ والضبطِ‏.‏ وقالَ ابنُ المدينيِّ‏:‏ «البابُ إذا لم تجمعْ طرقُه، لم يتبين خطؤهُ»‏.‏

ومثالُ العلّةِ في الحديثِ، حديثٌ رواهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ، أو صحَّحَهُ وابنُ حبّانَ، والحاكمُ وصحَّحهُ من روايةِ ابن جُرَيجٍ، عن موسى بن عُقبةَ، عن سُهَيل بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً‏:‏ «مَنْ جَلَسَ في مجلسٍ فَكثُرَ فيه لَغَطُهُ، … الحديثَ»‏.‏ قال الحاكمُ في ‏"‏ علوم الحديث ‏"‏‏:‏ هذا حديثٌ مَنْ تأمَّلَهُ لم يشكَّ أنّه مِنْ شرطِ الصحيحِ، وله علّةٌ فاحشةٌ‏.‏ ثم روى أنَّ مسلماً جاء إلى البخاريِّ فسألهُ عن علتهِ، فقال محمدُ بنُ إسماعيلَ‏:‏ هذا حديثٌ مليحٌ، ولا أعلمُ في الدنيا في هذا البابِ غيرَ هذا الحديثِ الواحدِ، إلا أنَّهُ معلولٌ‏.‏ حدّثنا به موسى بنُ إسماعيلَ، قال‏:‏ حدّثنا وُهَيبُ، قال‏:‏ حدّثنا سُهيلٌ، عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ، قولُه‏.‏ قالَ البخاريُّ‏:‏ هذا أولى فإنّهُ لا يُذكَرُ لموسى بنِ عُقبةَ سماعٌ من سهيلٍ‏.‏ هكذا أعلَّ الحاكمُ في علومِهِ هذا الحديثَ بهذه الحكايةِ‏.‏ وغالبُ ظنِّي أنَّ هذهِ الحكايةَ ليست بصحيحةٍ، وأنا أتهمُ بها أحمدَ بنَ حمدونَ القَصَّارَ راويَها عن مسلمٍ‏.‏

وقدْ بينتُ ذلكَ في النكتِ التي على كتابِ ابنِ الصلاحِ‏.‏

199‏.‏ وَهْيَ تَجِيءُ غَالِباً في السَّنَدِ *** تَقْدَحُ في المتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ

200‏.‏ أوْ وَقْفِ مَرْفُوْعٍ وَقَدْ لاَ يَقْدَحُ *** ‏(‏كَالبَيِّعَانِ بالخِيَار‏)‏ صَرَّحُوا

201‏.‏ بِوَهْمِ ‏(‏يَعْلَى بْنِ عُبَيدٍ‏)‏‏:‏ أبْدَلا *** ‏(‏عَمْراً‏)‏ بـ ‏(‏عَبْدِ اللهِ‏)‏ حِيْنَ نَقَلا

202‏.‏ وَعِلَّةِ المتْنِ كَنَفْي البَسْمَلَهْ *** إذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَها فَنَقَلَهْ

203‏.‏ وَصَحَّ أنَّ أَنَساً يَقُوْلُ‏:‏ ‏(‏لا *** أحْفَظُ شَيْئاً فِيهِ‏)‏ حِيْنَ سُئِلاَ

العلّةُ تكونُ في الإسنادِ- وهو الأغلبُ الأكثرُ- وتكونُ في المتنِ‏.‏

ثُمَّ العلةُ في الإسنادِ قدْ تقدحُ في صحةِ المتنِ أيضاً، وقد لا تقدحُ‏.‏ فأما علّةُ الإسنادِ التي تقدحُ في صحةِ المتنِ، فكالتعليلِ بالإرسالِ، والوقفِ‏.‏ وأما علّةُ الإسنادِ التي لا تقدحُ في صحةِ المتنِ، فكحديثٍ رواه يَعْلَى بنُ عُبيدِ الطَّنَافسيُّ أحدُ رجالِ الصحيحِ، عن سفيانَ الثَّوريِّ، عن عَمْرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قالَ‏:‏ «البَيِّعَان بالخِيَارِ»، الحديثَ‏.‏ فوَهِمَ يَعْلَى بنُ عُبيدٍ على سفيانَ في قولِهِ‏:‏ عمرِو بنِ دينارٍ‏.‏ وإنّما المعروفُ من حديثِ سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عُمَرَ‏.‏ هكذا رواهُ الأئمّةُ من أصحابِ سفيانَ أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بن دُكَين، وعُبيدُ الله بنُ موسى العَبْسيُّ، ومحمّدُ بنُ يوسفَ الفِرْيابيُّ، ومَخْلَدُ بنُ يزيدَ، وغيرُهم‏.‏ وهكذا رواهُ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ شعبةُ، وسفيانُ بنُ عُيينةَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الهادِ، ومالكُ بنُ أنسٍ من روايةِ ابنِ وَهْبٍ عنه‏.‏ والحديثُ مشهورٌ لمالكٍ، وغيرِهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ‏.‏ وأما روايةُ عمرِو بنِ دينارٍ له فوهمٌ من يَعْلَى بنِ عُبيدٍ، وقال عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن يحيى بنِ معينٍ‏:‏ يعلى بنُ عُبيدٍ ضعيفٌ في الثوريِّ، ثقةٌ في غيرِهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏أبدلَ عمراً بعبدِ اللهِ‏)‏ أي‏:‏ تركَ عبدَ الله بنَ دينارٍ، وأتى بعمرِو بنِ دينارٍ، لأنَّ الباءَ تدخلُ على المتروكِ‏.‏

وأمّا علّةُ المتنِ، فمثالُهُ ما تفرّدَ به مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيُّ، عن قتادةَ، أنّه كتبَ إليه يخبرُهُ عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّهُ حَدَّثَهُ قال‏:‏ صليتُ خلفَ النبيِّ ، وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ؛ فكانوا يستفتحونَ بـ‏:‏ الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، لا يذكرون بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، في أولِ قراءةٍ، ولا في آخرِها‏.‏

ثم رواهُ من رواية الوليدِ، عن الأوزاعيِّ‏:‏ أخبرني إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ أبي طلحةَ أنهُ سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ يذكرُ ذلك‏.‏ وروى مالكٌ في ‏"‏ الموطّأ ‏"‏ عن حُميدٍ، عن أنسٍ، قال‏:‏ صليتُ وراءَ أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، فكلُّهُم كانَ لا يقرأُ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ وزادَ فيه الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن مالكٍ به‏:‏ صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال ابنُ عبد البرِّ‏:‏ «وهو عندهُم خطأٌ»‏.‏ وحديثُ أنسٍ قد أعلَّهُ الشافعيُّ رضي الله عنه، فيما ذكرَهُ البيهقيُّ في ‏"‏ المعرفةِ ‏"‏ عنه أنّه قال في ‏"‏ سُننِ حَرْمَلةَ ‏"‏ جواباً لسؤالٍ أوردَهُ‏:‏ فإنْ قالَ قائلٌ قد روى مالكٌ، فذكرَهُ‏.‏ قال الشافعيُّ‏:‏ قيل له خالَفَهُ سفيانُ بنُ عيينةَ والفَزَارِيُّ، والثَقفيُّ، وعددٌ لقيتُهم سبعةٌ أو ثمانيةٌ، مُؤتَفِقين مخالفينَ له‏.‏ قال‏:‏ والعددُ الكثيرُ أولى بالحفظِ من واحدٍ‏.‏ ثم رجّحَ روايتَهُم بما رواه عن سفيانَ، عن أيوبَ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، قال‏:‏ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكرٍ، وعمرَ يفتتحون القراءةَ بـ‏:‏ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ‏.‏ قال الشافعيُّ‏:‏ يعني يبدؤون بقراءةِ أمِّ القرآنِ، قبلَ ما يُقرأُ بعدَها‏.‏ ولا يعني أنَّهم يتركونَ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ وحكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ في معنى الحديثِ مثلَ هذا‏.‏قالَ الدارقطنيُّ‏:‏ «هذا هو المحفوظُ عن قتادةَ وغيرِهِ، عن أنسٍ»‏.‏ قالَ البيهقيُّ‏:‏ وكذلك رواهُ أكثرُ أصحابِ قَتادةَ، عن قتادةَ قال‏:‏ وهكذا رواهُ إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ، وثابتٌ البُنانيُّ عن أنسٍ‏.‏ انتهى‏.‏ وممَّنْ رواه عن قتادةَ هكذا أيوبُ السَّخْتِيانيُّ، وشُعبةُ، وهِشامٌ الدَّسْتَوائيُّ، وشَيْبانُ بنُ عبدِ الرحمنِ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ، وأبو عوانة وغيرهم‏.‏ قالَ ابنُ عبدِ البَّرِ‏:‏ «فهؤلاءِ حُفّاظُ أصحاب قتادةَ ليسَ في روايتهم لهذا الحديثِ ما يوجبُ سقوطَ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ من أولِ فاتحةِ الكتابِ‏.‏ انتهى»‏.‏ وهذا هو اللفظُ المتفقُ عليه في الصحيحينِ وهو روايةُ الأكثرينَ‏.‏ وما أوَّلهُ عليه الشافعيُّ مصرّحٌ به في روايةِ الدارقطنيِّ فكانوا يستفتحون بأمِّ القرآنِ فيما يجهرُ به‏.‏ قال الدارقطنيُّ‏:‏ هذا صحيحٌ‏.‏ وأيضاً فلو قالَ قائلٌ إنَّ روايةَ حميدٍ منقطعةٌ بينه وبين أنسٍ؛ لم يكن بعيداً‏.‏ فقد رواها ابنُ عديٍّ عن حميدٍ، عن قتادةَ، عن أنسٍ قال ابنُ عبدِ البَرِّ‏:‏ ويقولون‏:‏ إنَّ أكثرَ روايةِ حميدٍ، عن أنسٍ، إنّما سمعَها من قتادةَ، وثابتٍ عن أنسٍ‏.‏ وقال ابنُ عبدِ البرِّ في ‏"‏ الاستذكارِ ‏"‏‏:‏ اختُلِفَ عليهم في لفظِهِ اختلافاً كثيراً مضطرباً متدافعاً‏.‏ منهم مَنْ يقولُ فيه‏:‏ صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ، ومنهم مَنْ يذكرُ عثمانَ، ومنهم مَنْ لا يذكرُ‏:‏ فكانوا لا يقرؤونَ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ ومنهم مَنْ قال‏:‏ فكانوا لا يجهرونَ بـ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ وقال كثيرٌ منهم‏:‏ فكانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ‏:‏ الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ‏.‏ وقال بعضُهم‏:‏ فكانوا يجهرونَ بـ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ وقال بعضُهم‏:‏ كانوا يقرؤون‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ قال‏:‏ وهذا اضطرابٌ لا تقومُ معَهُ حجةٌ لأحدٍ من الفقهاءِ الذين يقرؤون بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، والذين لا يقرؤونها‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏إذ ظنَّ راوٍ نفيها، فنقله‏)‏ أي‏:‏ إذ ظنَّ بعضُ الرواةِ فَهْماً منه أنَّ معنى قولِ أنسٍ‏:‏ يستفتحون بـ‏:‏ الحمدُ للهِ، أنَّهم لا يُبَسْمِلونَ، فرواهُ على فَهْمِهِ بالمعنى، وهو مخطئٌ في فَهْمِهِ‏.‏ وممَّا يدلُّ على أنَّ أنساً لم يُرِدْ بذلك نفيَ البسملةِ، ما صحَّ عنه مِنْ روايةِ أبي مسلمةَ سعيدِ بنِ يَزِيْدَ، قال‏:‏ سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ أكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يستفتح بـ‏:‏ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين أو بـ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم‏؟‏ فقالَ‏:‏ إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظُهُ، وما سألني عنه أحدٌ قبلَكَ‏.‏ رواه أحمدُ في مسندِهِ، وابنُ خزيمة في ‏"‏ صحيحهِ ‏"‏، والدارقطنيُّ وقال‏:‏ هذا إسنادٌ صحيحٌ‏.‏ قال البيهقيُّ في ‏"‏ المعرفة ‏"‏‏:‏ في هذا دلالةٌ على أنَّ مقصودَ أنسٍ ما ذكرَهُ الشافعيُّ‏.‏ وقد اعترضَ ابنُ عبد البرِّ على هذا الحديثِ بأنْ قال‏:‏ «مَنْ حفظَهُ عنه حجّةٌ على مَنْ سألَهُ في حالِ نسيانِهِ»‏.‏ وأجابَ أبو شَامةَ بأنّهما مسألتانِ‏.‏ فسؤالُ أبي مسلمة عن البسملةِ وتركِها، وسؤالُ قتادةَ عن الاستفتاح بأيِّ سورةٍ‏.‏ وفي صحيحِ مسلم‏:‏ أنَّ قتادةَ قال‏:‏ نحنُ سألناهُ عنه، فاتضح أنَّ سؤالَ قتادةَ كان غيرَ سؤالِ أبي مسلمة‏.‏ وأما قولُ ابنِ الجوزيِّ في ‏"‏ التحقيق ‏"‏‏:‏ «حديثُ أبي مسلمة ليسَ في الصحاحِ، فلا يُعارِضُ ما في الصحاح‏.‏ وإنَّ الأئمةَ اتفقوا على صحةِ حديثِ أنسٍ» ففيه نظرٌ‏.‏ فهذا الشافعيُّ، والدارقطنيُّ، والبيهقيُّ لا يقولون بصحةِ حديث أنسٍ الذي فيه نفيُ البسملة‏.‏ فلا يصحُّ نقلُ اتفاقِ الأئمةِ عليه، ولا يُردُّ حديثُ أبي مسلمةِ، بكونهِ ليس في الصحاحِ‏.‏ فقد صحّحهُ ابنُ خزيمةَ والدارقطنيُّ‏.‏ وأيضاً فقد وصفَ أنسٌ قراءةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بـ‏:‏ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ‏.‏ فروى البخاريُّ في صحيحِهِ من روايةِ قتادةَ، قال‏:‏ سُئلَ أنسُ بنُ مالكٍ، كيف كانت قراءةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال‏:‏ كانت مدّاً‏.‏ ثمَّ قرأَ‏:‏ بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، يمدُّ بسمِ اللهِ‏.‏ ويمدُّ الرحمنَ، ويمدُّ الرحيمَ‏.‏ قال الدارقطنيُّ‏:‏ هذا حديثٌ صحيحٌ‏.‏ وكلُّهم ثقاتٌ‏.‏ وقال الحازميُّ‏:‏ هذا حديثٌ صحيحٌ لا يُعرفُ له علّةٌ‏.‏ وفيه دلالةٌ على الجهرِ مطلقاً، وإنْ لم يُقَيَّدْ بحالةِ الصلاةِ‏.‏ فيتناولُ الصلاةَ وغيرَ الصلاةِ‏.‏ قال أبو شامةَ‏:‏ وتقريرُ هذا أنْ يُقالَ‏:‏ لو كانتْ قراءةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أمرِ الجهرِ والإسرارِ تختلفُ في الصلاةِ وخارجِ الصلاةِ، لقال أنس لمَنْ سألَهُ عن أيِّ قراءتَيْهِ تسألُ‏؟‏ عن التي في الصلاةِ أم عن التي خارجَ الصلاةِ‏؟‏ فلما أجابَ مطلقاً عُلم أنَّ الحالَ لم يختلفْ في ذلكَ‏.‏ وحيثُ أجابَ بالبسملةِ دونَ غيرِها من آياتِ القرآنِ، دلَّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجهرُ بالبسملةِ في قراءتهِ‏.‏ ولولا ذلك لكان أنسٌ أجابَ‏:‏ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أو غيرها من الآياتِ‏.‏ قال‏:‏ وهذا واضحٌ‏.‏ قال‏:‏ ولنا أنْ نقولَ‏:‏ الظاهرُ أنَّ السؤالَ لم يكن إلاّ عن قراءتِهِ في الصلاةِ، فإنَّ الراوي قتادةُ، وهو راوي حديثِ أنسٍ ذاك‏.‏ وقال فيه‏:‏ نحنُ سألناهُ عنه‏.‏ انتهى‏.‏ فهذا ترجيحٌ لقراءةِ البسملةِ‏.‏ وقد قالَ الحازميُّ‏:‏ إنّهُ لا يُعرَفُ له علّةٌ‏.‏ ولم يختلفْ على قتادةَ فيهِ‏.‏ وأما حديثُ أنسٍ ذاكَ، فلهُ علّلٌ اختُلفَ على قتادةَ فيه‏.‏ وأعلَّهُ الشافعيُّ بخطأِ الراوي في فَهْمِهِ، وأعلَّهُ ابنُ عبدِ البرِّ بالاضطرابِ‏.‏ ومِنْ عِلَلِهِ أنهُ ليسَ متّصلاً بالسماعِ، فإنَّ قتادةَ كتبَ إلى الأوزاعيِّ به‏.‏ والخلافُ في الكتابةِ معروفٌ، كما سيأتي‏.‏

وأما روايةُ مسلمٍ الثانيةُ فإنَّ مسلماً لم يسقْ لفظَها، وقد ساقَهُ ابنُ عبدِ البرِّ، كروايةِ الأكثرينَ، كانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ‏:‏ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وليس فيها نفيُ البسملةِ‏.‏ رواها من روايةِ محمدِ بنِ كثيرٍ قال‏:‏ حدّثنا الأوزاعيُّ وهذهِ أولى من روايةِ مسلمٍ؛ لأنَّ تلك من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ عن الأوزاعيِّ بالعنعنةِ، والوليدُ مدلّسٌ، كما تقدّم‏.‏ وأيضاً فقد تقدمَ قولُ البيهقيِّ أنَّ روايةَ إسحاقَ، وثابتٍ هكذا، وهو خلافُ ما يوهمُهُ عملُ مسلمٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى‏.‏

204‏.‏ وَكَثُرَ التَّعْلِيْلُ بِالإرْسَالِ *** لِلوَصْلِ إنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ

205‏.‏ وَقَدْ يُعِلُّوْنَ بِكُلِّ قَدْحِ *** فِسْقٍ، وَغَفْلَةٍ، وَنَوْعِ جَرْحِ

206‏.‏ وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ العِلَّةِ *** لِغَيْرِ قادحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ

207‏.‏ يَقُوْلُ‏:‏ مَعْلُوْلٌ صَحِيْحٌ كَالذّيْ *** يَقُوْلُ‏:‏ صَحَّ مَعْ شُذُوْذٍ احْتُذِيْ

لمَّا تقدّمَ أنَّ العلّةَ تكونُ غامضةً خفيةً في الحديثِ، ذكر أنّهم يُعِلُّونَ أيضاً بأمورٍ ليست خفيةً‏.‏ كالإرسالِ، وفِسْقِ الراوي، وضَعْفِهِ، وبما لا يقدحُ أيضاً‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاح‏:‏ وكثيراً ما يُعللون الموصولَ بالمُرسلِ، مثلُ أنْ يجيءَ الحديثُ بإسنادٍ موصولٍ، ويجيءَ أيضاً بإسنادٍ منقطع أقوى من إسناد الموصولِ‏.‏ قالَ‏:‏ ولهذا اشتملتْ كتبُ عللِ الحديثِ على جمع طرقِهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏إنْ يَقْوَ‏)‏ أي‏:‏ إنْ يَقْوَ الإرسالُ على الاتّصالِ‏.‏ وقد يُعِلُّوَنَ الحديثَ بأنواعِ الجرحِ، من الكذبِ، والغَفْلةِ، وسوءِ الحفظِ، وفسقِ الراوي وذلك موجودٌ في كتبِ عِلَلِ الحديثِ‏.‏

وبعضُهم يطلقُ اسمَ العلةِ على ما ليس بقادحٍ من وجوهِ الخلاف، كالحديثِ الذي وَصَلَهُ الثقةُ الضابطُ، وأرسلَهُ غيرُه، حتى قالَ‏:‏ مِنْ أقسامِ الصحيحِ ما هو صحيحٌ معلولٌ‏.‏ هكذا نقلَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم، ولم يسمِّه‏.‏ وقائلُ ذلك هو أبو يعلى الخليليُّ‏.‏ قاله في كتابهِ ‏"‏ الإرشادِ ‏"‏ أنَّ الأحاديثَ على أقسامٍ كثيرةٍ‏.‏ صحيحٍ متفقٍ عليه، وصحيحٍ معلولٍ، وصحيحٍ مختلفٍ فيه‏.‏ ثم مَثَّلَ الصحيحَ المُعَلَّ بحديثٍ رواه إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ، والنُّعمانُ بنُ عبدِ السلامِ، عن مالكٍ، عن محمّدِ بنِ عَجْلانَ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «للمملوكِ طعامُهُ وشرابُهُ»‏.‏ وقد رواه أصحابُ مالكٍ كلُّهم في ‏"‏ الموطّأ ‏"‏ عن مالكٍ، قال‏:‏ بلغنا عن أبي هريرةَ‏.‏ قال الخليليُّ‏:‏ فقد صارَ الحديثُ بتبيُّنِ الإسنادِ صحيحاً يُعتَمَدُ عليه‏.‏ قال‏:‏ وهذا مِنَ الصحيحِ المبيَّن بحجّةٍ ظهَرتْ‏.‏ قال‏:‏ وكانَ مالكٌ يرسِلُ أحاديثَ لا يُبيِّنُ إسنادَها‏.‏ وإذا استقصى عليه مَنْ يتجاسَرُ أنْ يسألَهُ ربّما أجابه إلى الإسنادِ، وأتيتُ بلفظٍ معلولٍ‏.‏ وكذلك ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لمَنْ حكى كلامَهُ في ذلك، وهو الخليليُّ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كالذي يقولُ …‏)‏ إلى آخره، أي‏:‏ كما قالَ بعضُهم من الصحيحِ ما هو صحيحٌ شاذٌّ‏.‏

208‏.‏ وَالنَّسْخَ سَمَّى ‏(‏التِّرْمِذِيُّ‏)‏ عِلَّهْ *** فَإنْ يُرِدْ في عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ

أي‏:‏ وسمَّى الترمذيُّ النسخَ علةً من عللِ الحديثِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏فإنْ يرد‏)‏، هوَ مِنَ الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، أي‏:‏ فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنّهُ علّةٌ في العملِ بالحديثِ، فهو كلامٌ صحيحٌ‏.‏ فاجنح له، أي‏:‏ مِلْ إلى كلامِهِ‏.‏ وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ، فلا؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً، وسيأتي الكلامُ على النسخِ في فصلِ الناسخِ والمنسوخِ‏.‏

المُضْطَرِبُ

209‏.‏ مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ‏:‏ مَا قَدْ وَرَدَا *** مُخْتَلِفاً مِنْ وَاحِدٍ فَأزْيَدَا

210‏.‏ في مَتْنٍ اوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ *** فِيْهِ تَسَاوِي الخُلْفِ، أَمَّا إِنْ رَجَحْ

211‏.‏ بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا *** وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا

212‏.‏ كَالخَطِّ للسُّتْرَةِ جَمُّ الخُلْفِ *** والاضْطِرَابُ مُوْجِبٌ للضَّعْفِ

المُضْطَرِبُ مِنَ الحديثِ، هو ما اختَلَفَ راويه فيهِ‏.‏ فرواهُ مرّةً على وجهٍ، ومرةً على وجهٍ آخَر مخالفٍ له‏.‏ وهكذا إنِ اضطربَ فيهِ راويانِ فأكثر، فرواهُ كلُّ واحدٍ على وجهٍ مخالفٍ للآخرِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏من واحدٍ‏)‏ أي‏:‏ من راوٍ واحدٍ، ثم الاضطرابُ قد يكونُ في المتنِ، وقد يكونُ في السندِ‏.‏ وإنّما يُسَمَّى مضطرباً إذا تساوتِ الروايتان المختلفتانِ في الصحةِ بحيثُ لم تترجَّحْ إحداهُما على الأخرى‏.‏ أمَّا إذا ترجَّحَتْ إحداهما بكونِ راويها أحفظَ، أو أكثرَ صحبةً للمرويِّ عنهُ، أو غيرَ ذلك من وجوهِ الترجيحِ، فإنهُ لا يُطلقُ على الوجهِ الراجحِ وصفُ الاضطرابِ، ولا لَهُ حكمُهُ، والحكمُ حينئذٍ للوجهِ الراجحِ‏.‏

مثالُ الاضطرابِ في السندِ‏:‏ ما رواهُ أبو داودَ، وابنُ ماجه، من روايةِ إسماعيلَ بنِ أُميَّةَ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ حُرَيثٍ، عن جَدِّهِ حريثٍ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «إذا صلَّى أحدُكُم فليجعَلْ شيئاً تِلْقاءَ وَجْهِهِ … الحديثَ»‏.‏ وفيه‏:‏ «فإذا لم يجدْ عَصاً ينصبُها بين يديه فَليَخُطَّ خطاً»‏.‏ وقدِ اختُلِفَ فيه على إسماعيلَ اختلافاً كثيراً‏:‏

فرواهُ بِشْرُ بنُ المُفضَّلِ، ورَوْحُ بنُ القاسمِ عنه، هكذا‏.‏ ورواهُ سفيانُ الثوريُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ حُريثٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ‏.‏ ورواهُ حُميدُ بنُ الأسودِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ عن أبي هريرةَ‏.‏ ورواهُ وُهَيبُ بنُ خالدٍ، وعبدُ الوارثِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثٍ‏.‏ ورواهُ ابنُ جُريجٍ عنه، عن حريثِ بنِ عمّارٍ، عن أبي هريرةَ‏.‏ ورواه ذَوَّادُ بن عُلْبَةَ الحارثيُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سليمانَ‏.‏ قالَ أبو زُرعةَ الدمشقيُّ‏:‏ لا نعلمُ أحداً بيَّنَهُ ونسبَهُ غيرُ ذَوَّادٍ‏.‏ ورواه سفيانُ بنُ عُيينةَ عنهُ‏.‏ فاختُلِفَ فيه على ابنِ عيينة‏.‏ فقال ابنُ المدينيِّ‏:‏ عن ابنِ عيينةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثٍ رجلٍ من بني عُذْرةَ‏.‏ قال سفيانُ‏:‏ لم نجدْ شيئاً نشدُّ به هذا الحديثَ، ولم يجئ إلاَّ مِنْ هذا الوجهِ‏.‏ قال ابنُ المدينيِّ‏:‏ قلتُ له‏:‏ إنّهم يختلفونَ فيه فتفكَّرَ ساعةً‏.‏ ثم قال ما أحفظُهُ إلاّ أبا محمدِ بنَ عمرٍو‏.‏

ورواه محمّدُ بنُ سلامٍ البِيكَنْديُّ، عن ابنِ عيينَة، مثلَ روايةِ بشرِ بنِ المفضّلِ، ورَوْحٍ‏.‏ ورواهُ مُسَدَّدٌ، عن ابنِ عيينةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ‏.‏ ورواهُ عمّارُ بنُ خالدٍ الواسطيُّ، عن ابنِ عيينة، عن إسماعيلَ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جَدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ، وفيه من الاضطرابِ غيرُ ما ذكرتُ‏.‏ وهو المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏كالخطِّ‏)‏ أي‏:‏ كحديثِ الخَطِّ للسُّتْرةِ جَمُّ الخُلْفِ، أي‏:‏ هو كثيرُ الاختلافِ‏.‏

ومثالُ الاضطرابِ في المتنِ، حديثُ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ، قالت‏:‏ سألتُ، أو سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الزَّكاةِ، فقال‏:‏ «إنَّ في المالِ لَحَقّاً سِوَى الزَّكَاةِ»‏.‏ فهذا حديثٌ قدِ اضطربَ لفظُهُ ومعناهُ‏.‏ فرواهُ الترمذيُّ هكذا من روايةِ شَرِيكٍ، عن أبي حمزةَ، عن الشِّعبيِّ، عن فاطمةَ‏.‏ ورواهُ ابنُ ماجه من هذا الوجهِ بلفظِ‏:‏ «ليسَ في المالِ حقٌّ سِوَى الزكاةِ»‏.‏ فهذا اضطرابٌ لا يحتملُ التأويلَ‏.‏ وقولُ البيهقيِّ‏:‏ أنّهُ لا يحفظُ لهذا اللفظِ الثاني إسناداً، معارَضٌ بما رواهُ ابنُ ماجه هكذا، واللهُ أعلمُ‏.‏

والاضطرابُ موجبٌ لضعفِ الحديثِ المضطربِ لإشعارِهِ بعدمِ ضبطِ راويهِ، أو رواتِهِ، واللهُ أعلمُ‏.‏

المُدْرَجُ

213‏.‏ المُدْرَجُ‏:‏ المُلْحَقُ آخِرَ الخَبَرْ *** مِنْ قَوْلِ راوٍ مَا، بلا فَصْلٍ ظَهَرْ

214‏.‏ نَحْوُ ‏(‏إذَا قُلْتَ‏:‏ التَّشَهُّدَ‏)‏ صَلْ *** ذَاكَ ‏(‏زُهَيْرٌ‏)‏ وَ ‏(‏ابنُ ثَوْبَانَ‏)‏ فَصَلْ

215‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَمِنْهُ مُدْرَجٌ قَبْلُ قُلِبْ *** ‏(‏كَأسْبِغُوا الوُضُوْءَ وَيْلٌ لِلعَقِبْ‏)‏

المدرجُ في الحديثِ أقسامٌ‏:‏

القسمُ الأولُ منه‏:‏ ما أُدرجَ في آخرِ الحديثِ من قولِ بعضِ رواتِهِ‏.‏ أمَّا الصحابيُّ، أو مَنْ بعدَهُ موصولاً بالحديثِ من غيرِ فَصْلٍ بين الحديثِ وبين ذلك الكلامِ، بذكرِ قائِلِه، فيلتبسُ على مَنْ لا يعلم حقيقةَ الحالِ، ويتوهمُ أنَّ الجميعَ مرفوعٌ‏.‏ مثالُهُ‏:‏ ما رواهُ أبو داودَ، قالَ‏:‏ حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ النُّفَيْلِيُّ، قالَ‏:‏ حدَّثَنا زُهَيرٌ، قالَ‏:‏ حدَّثَنا الحسنُ بنُ الحُرِّ، عن القاسمِ بنِ مُخَيْمِرةَ، قال‏:‏ أخذَ عَلْقَمةُ بيدي، فحدّثني أنَّ عبدَ اللهِ بْنَ مسعودٍ أخذَ بيدِهِ، وأنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخذَ بيدِ عبدِ اللهِ، فعلَّمَنَا التشهدَ في الصلاةِ‏.‏ قال‏:‏ فذكرَ مثلَ حديثِ الأعمشِ‏:‏ إذا قُلتَ هذا، أو قَضَيْتَ هذا فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ، إنْ شِئْتَ أنْ تقومَ فَقُمْ‏.‏ وإنْ شئتَ أنْ تقعُدَ فاقْعُدْ‏.‏ فقولُهُ‏:‏ إذا قلتَ إلى آخره، وصلَهُ زُهيرُ بنُ معاويةَ أبو خَيثمةَ بالحديثِ المرفوعِ في روايةِ أبي داودَ هذهِ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ قولُهُ إذا قلتَ، هذا مدرجٌ في الحديثِ من كلامِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ‏.‏ وكذا قالَ البيهقيُّ في ‏"‏ المعرفةِ ‏"‏‏:‏ قد ذهبَ الحُفَّاظُ إلى أنَّ هذا وهمٌ وأنَّ قولَهُ‏:‏ «إذا فعلتَ هذا، أو قضيتَ هذا، فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ» من قولِ ابنِ مسعودٍ، فأدرجَ في الحديثِ‏.‏ وكذا قال الخطيبُ في كتابهِ الذي جمَعهُ في الْمُدرجِ‏:‏ إنّها مُدْرَجَةٌ‏.‏ وقالَ النَّوويُّ في ‏"‏ الخُلاصة ‏"‏‏:‏ اتّفقَ الحفَّاظُ على أنّها مُدرجةٌ‏.‏ انتهى‏.‏ وقولُ الخطّابيِّ في ‏"‏ المعالم ‏"‏‏:‏ اختلفوا فيهِ، هلْ هوَ مِنْ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو من قولِ ابنِ مسعودٍ‏؟‏ فأرادَ اختلافَ الرواةِ في وصلِهِ، وفصلِهِ، لا اختلافَ الحفَّاظِ؛ فإنَّهُمْ متَّفِقُونَ على أنَّهَا مُدْرَجَةٌ‏.‏على أنَّهُ قدِ اختُلِفَ على زُهيرٍ فيهِ، فرواهُ النُّفَيليُّوأبو النَّضْرِ هاشمُ بنُ القاسمِ، وموسى بنُ داودَ الضَّبِّيُّ، وأحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ يونسَ اليَرْبوعيُّ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعاصمُ بنُ عليٍّ، وأبو داودَ الطيالسيُّ، ويحيى بنُ أبي بُكَيرٍ الكِرْمانيُّ، ومالكُ بنُ إسماعيلَ النَّهْديُّ عنهُ، هكذا مُدْرَجَاً‏.‏

ورواهُ شَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ عنهُ، فَفَصَلَهُ وبيَّنَ أنَّهُ مِنْ قولِ عبدِ اللهِ، فقالَ‏:‏ قالَ عبدُ اللهِ‏:‏ «فإذا قلتَ ذلكَ فقد قَضَيْتَ ما عليكَ من الصلاةِ، فإنْ شئتَ أنْ تقومَ فقُمْ، وإنْ شئتَ أنْ تَقْعُدَ فاقعُدْ»‏.‏ رواهُ الدارقطنيُّ، وقالَ‏:‏ شَبَابةُ ثقةٌ‏.‏ وقد فَصَلَ آخِرَ الحديثِ وجعلَهُ من قولِ ابنِ مسعودٍ، وهو أصحُّ من روايةِ مَنْ أدرجَ آخرَه‏.‏ وقولُه أشبهُ بالصوابِ؛ لأنَّ ابنَ ثوبانَ رواهُ عن الحسنِ بنِ الحرِّ كذلك، وجعل آخرَه من قولِ ابنِ مسعودٍ، ولم يرفعْهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم رواهُ من روايةِ غسّانَ بنِ الربيعِ، عن عبدِ الرحمن ابنِ ثابتِ بنِ ثوبانَ، عن الحسنِ بنِ الحرِّ، بهِ‏.‏ وفي آخرِهِ‏:‏ ثم قال ابنُ مسعودٍ‏:‏ إذا فرغتَ من هذا فقد فرغتَ من صلاتِكَ، فإنْ شئتَ فاثبُتْ، وإن شئتَ فانصرِفْ‏.‏ ورواه الخطيبُ أيضاً من روايةِ بقيّةَ، قال‏:‏ حدّثنا ابنُ ثوبانَ فاستدلَّ الدارقطنيُّ على تصويبِ قولِ شَبَابةَ، بروايةِ ابنِ ثوبانَ هذهِ، وباتفاقِ حسين الجُعْفِيِّ، وابنِ عَجْلانَ، ومحمدِ بنِ أبانَ في روايتِهِم عن الحسنِ بنِ الحرِّ، على تَرْكِ ذكرِهِ في آخِرِ الحديثِ، مع اتفاقِ كُلِّ مَنْ روى التشهدَ عن علقمةَ، وعَنْ غيرِهِ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ على ذلك‏.‏

واعلمْ أنَّ ابنَ الصلاحِ قَيَّدَ هذا القسمَ من المدرجِ بكونِهِ أُدرجَ عَقِبَ الحديثِ‏.‏ وقد ذكرَ الخطيبُ في المدرجِ ما أُدخلَ في أوَّلِ الحديثِ، أو في وَسَطِهِ‏.‏ فأشرتُ إلى ذلكَ بقولي‏:‏ ‏(‏قلتُ‏:‏ ومنه مدرجٌ قَبْلُ قُلِبْ‏)‏ أي‏:‏ أُتي بهِ قبلَ الحديثِ المرفوعِ، أو قبلَ آخرهِ، في وَسطِهِ مثلاً‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏قُلِبْ‏)‏ أي‏:‏ جعلَ آخِرَهُ أوَّلَهُ؛ لأنَّ الغالبَ في المدرجاتِ ذكرُها عَقِبَ الحديثِ‏.‏

ومثالُ ما وُصلَ بأوَّلِ الحديثِ، وهو مدرجٌ‏:‏ ما رواه الخطيبُ من روايةِ أبي قَطَن، وشَبابَة فَرَّقَهُما عن شعبةَ، عن محمدِ بنِ زيادٍ، عن أبي هريرةَ قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسبغوا الوضوءَ، ويلٌ للأعقابِ من النارِ»‏.‏

فقولُهُ‏:‏ أسبغوا الوضوءَ، من قولِ أبي هريرةَ، وُصلَ بالحديثِ في أوَّلِهِ كذلك‏.‏ رواه البخاريُّ في صحيحهِعن آدمَ بنِ أبي إياسٍ، عن شعبةَ، عن محمدِ بنِ زيادٍ، عن أبي هريرةَ، قال‏:‏ أسبغوا الوضوءَ، فإنَّ أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ويلٌ للأعقابِ من النارِ»‏.‏ قال الخطيبُ‏:‏ وَهِمَ أبو قَطَن عمرُو بنُ الهيثمِ، وشَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ في روايتهما هذا الحديث عن شعبةَ على ما سقناه‏.‏ وذلك أنَّ قولَهُ‏:‏ «أسبغوا الوضوءَ» كلامُ أبي هريرةَ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ «ويلٌ للأعقابِ مِنَ النارِ»، كلامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد رواهُ أبو داودَ الطيالسيُّ، ووَهْبُ بنُ جريرٍ، وآدمُ بنُ أبي إياسٍ، وعاصمُ بنُ عليٍّ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ، وغُنْدَرٌ، وهُشيمٌ، ويزيدُ بنُ زُرَيعٍ، والنَّضْرُ بنُ شُميلٍ، ووكيعٌ، وعيسى بنُ يونسَ، ومُعاذُ بنُ معاذٍ؛ كلُّهُم عن شعبةَ‏.‏ وجعلوا الكلامَ الأولَ من قولِ أبي هريرةَ، والكلامَ الثانيَ مرفوعاً‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏ويلٌ للعَقِبِ‏)‏، أُفرِدَ لأجلِ الوزنِ، وكذلك هو في روايةِ أبي داودَ الطيالسيِّ، عن شعبةَ‏:‏ «ويلٌ للعَقِبِ من النارِ»‏.‏

ومثالُ المدرجِ في وَسَطِ الحديثِ، ما رواهُ الدارقطنيُّ في سننهِ من روايةِ عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ، عن هِشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيهِ، عن بُسْرَةَ بنتِ صَفْوانَ قالتْ‏:‏ سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ‏:‏ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ، أو أُنْثَيَيْهِ أو رُفْغَهُ، فَلْيَتَوضَّأْ»‏.‏ قال الدارقطنيُّ‏:‏ كذا رواه عبدُ الحميدِ، عن هشامٍ، ووَهِمَ في ذكرِ الأُنثيين، والرُّفْغِ، وإدراجِهِ ذلك في حديثِ بُسْرَةَ‏.‏ قالَ‏:‏ والمحفوظُ أنَّ ذلك من قولِ عُروةَ غيرُ مرفوعٍ‏.‏ وكذلك رواه الثقاتُ عن هشامٍ منهم‏:‏ أيوبُ السِّخْتِيانيُّ، وحمّادُ بنُ زيدٍ، وغيرُهما‏.‏ ثم رواهُ من طريق أيوبَ بلفظِ‏:‏ «مَنْ مَسَّ ذكرَهُ فليتوضَّأ»، قال‏:‏ وكان عروةُ يقولُ‏:‏ إذا مسَّ رُفْغَيهِ، أو أُنثييهِ، أو ذكرَهُ فليتوضَّأْ‏.‏ وقالَ الخطيبُ‏:‏ تفرّدَ عبدُ الحميدِ بذكرِ الأُنثيينِ، والرُّفْغينِ‏.‏ وليس من كلامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو قولُ عروةَ بنِ الزبيرِ، فأدرَجَهُ الراوي في متنِ الحديثِ‏.‏ وقد بَيَّنَ ذلك حمّادٌ وأيوبُ‏.‏

قلتُ‏:‏ لم ينفردْ به عبدُ الحميدِ‏.‏ فقد رواه الطَّبرانيُّ في ‏"‏المعجمِ الكبيرِ‏"‏ من روايةِ أبي كاملٍ الجَحْدريِّ، عن يزيدَ بنِ زُرَيعٍ، عن أيوبَ، عن هشامٍ عن أبيه، عن بُسرة بلفظِ‏:‏ «إذا مسَّ أحدُكُم ذَكَرَهُ، أو أُنْثييهِ، أو رُفْغيْهِ، فَلْيَتوضَّأ»‏.‏ وعلى هذا فقدِ اختُلِفَ فيه على يزيدَ بنِ زُريعٍ‏.‏ ورواهُ الدارقطنيُّ أيضاً من روايةِ ابنِ جريجٍ، عن هشامٍ، عن أبيهِ، عن مروانَ، عن بُسرة، بلفظ‏:‏ «إذا مسَّ أحدُكم ذكرَهُ أو أنْثَييهِ»، ولم يذكرِ‏:‏ الرُّفْغَ، وزادَ في السندِ مروانَ بنَ الحكمِ‏.‏ وقد ضعّفَ ابنُ دقيقِ العيدِ الطريقَ إلى الحُكْمِ بالإدراجِ في نحو هذا‏.‏ فقالَ في ‏"‏ الاقتراح ‏"‏ وممّا يَضعُفُ فيه أنْ يكونَ مُدرجاً في أثناءِ لفظِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، لاسيما إنْ كان مُقدَّماً على اللفظِ المرويِّ، أو معطوفاً عليه بواوِ العطفِ، كما لو قال مَنْ مسَّ أنثييهِ أو ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأْ، بتقديمِ لفظِ الأنثييْنِ على الذَّكَرِ فهاهنا يضعفُ الإدراجُ لما فيه من اتصالِ هذهِ اللفظةِ بالعاملِ الذي هو من لفظِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلتُ‏:‏ ولا يعرفُ في طُرُقِ الحديثِ تقديمُ الأُنثيين على الذَّكَرِ، وإنّما ذكرَهُ الشيخُ مثالاً، فليُعلمْ ذلكَ‏.‏

216‏.‏ وَمِنْهُ جَمْعُ مَا أتَى كُلُّ طَرَفْ *** مِنْهُ بِإسْنَادٍ بِوَاحِدٍ سَلَفْ

217‏.‏ كـ ‏(‏وَائِلٍ‏)‏ في صِفَةِ الصَّلاَةِ قَدْ *** أُدْرِجَ ‏(‏ثُمَّ جِئْتُهُمْ‏)‏ وَمَا اتَّحَدْ

أي‏:‏ من أقسامِ المدرَجِ، وَهُوَ القسمُ الثاني‏:‏ أنْ يكونَ الحديثُ عِنْدَ راويهِ بإسنادٍ إلاّ طرفاً مِنْهُ، فإنهُ عندَهُ بإسنادٍ آخرَ‏.‏ فيجمعُ الرَّاوِي عَنْهُ طرفيِّ الحديثِ بإسنادِ الطرفِ الأولِ، ولا يذكرُ اسنادَ طرفِهِ الثاني‏.‏ مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ أبو داودَ من روايةِ زائدةَ، وشَرِيكٍ، فَرَّقَهُمَا، والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عيينة كلُّهُم، عن عاصمِ بنِ كُلَيْبٍ، عن أبيهِ، عن وائلِ بن حُجْرٍ في صِفَةِ صلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ فِيْهِ‏:‏ ثُمَّ جِئْتُهُم بعدَ ذلكَ في زمانٍ فِيْهِ بردٌ شديدٌ، فرأيتُ الناسَ عَلَيْهِمْ جُلَّ الثيابِ، تَحَرَّكُ أيديِهم تحتَ الثِّيابِ‏.‏ قَالَ موسى بنُ هارونَ الحمّالُ‏:‏ ذَلِكَ عندنا وهمٌ‏.‏ فقولُهُ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ جئت‏)‏‏.‏ ليس هو بهذا الإسنادِ، وإنّما أُدرج عليه وهو من روايةِ عاصمٍ، عن عبدِ الجبارِ بنِ وائلٍ عن بعضِ أهلِهِ، عن وائلٍ‏.‏ وهكذا رواه مُبَيَّناً زُهيرُ بنُ معاويةَ، وأبو بَدْرٍ شُجاعُ بنُ الوليدِ، فمَيَّزَا قصّةَ تحريكِ الأيدي من تحتِ الثيابِ، وفَصَلاها مِنَ الحديثِ، وذكر إسنادها، كما ذكرناه‏.‏ قال موسى بنُ هارونَ الحمّالُ‏:‏ وهذه روايةٌ مضبوطةٌ، اتفق عليها زهيرٌ وشُجاعُ بنُ الوليدِ‏.‏ فهما أثبَتُ له روايةً ممَّنْ رَوَى رفعَ الأيدي من تحتِ الثيابِ، عن عاصمِ بنِ كُليبٍ، عن أبيهِ، عن وائلٍ‏.‏وقال ابنُ الصلاح‏:‏ إنهُ الصّوابُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وما اتّحد‏)‏ أي‏:‏ وما اتحدَ إسنادُ هذا الطرفِ الأخيرِ مع أوَّلِ الحديثِ، بل إسنادُهما مختلفٌ‏.‏

218‏.‏ وَمِنْهُ أنْ يُدْرَجَ بَعْضُ مُسْنَدِ *** في غَيْرِهِ مَعَ اخْتِلاَفِ السَّنَدِ

219‏.‏ نَحْوُ ‏(‏وَلاَ تَنَافَسُوْا‏)‏ في مَتْنِ ‏(‏لاَ *** تَبَاغَضُوا‏)‏ فَمُدْرَجٌ قَدْ نُقِلاَ

220‏.‏ مِنْ مَتْنِ ‏(‏لاَ تَجَسَّسوا‏)‏ أدْرَجَهُ *** ‏(‏إبْنُ أبي مَرْيَمَ‏)‏ إذْ أخْرَجَهُ

أي‏:‏ ومن أقسامِ المدرجِ، وهو القسمُ الثالثُ‏:‏ أنْ يُدرجَ بعضُ حديثٍ في حديثٍ آخرَ مخالفٍ له في السند‏.‏

مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ سعيدُ بنُ أبي مريمَ، عن مالكٍ، عن الزهريِّ، عن أنسٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال‏:‏ «لا تَبَاغَضُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَدَابَرُوا ولا تَنَافَسُوا، … الحديثَ»‏.‏

فقولُهُ‏:‏ «ولا تنافسُوا» مدرجَةٌ في هذا الحديثِ أدرَجَها ابنُ أبي مريمَ فيه، من حديثٍ آخرَ لمالكٍ، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذَبُ الحديثِ، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَنَافَسُوا، ولا تَحاسَدُوا، …» وكلا الحديثينِ متفقٌ عليه‏.‏ من طريقِ مالكٍ‏.‏ وليس في الأولِّ‏:‏ ولا تنافسوا‏.‏ وهي في الحديثِ الثاني‏.‏ وهكذا الحديثانِ عند رواةِ ‏"‏ الموطّأ ‏"‏‏:‏ عبدِ الله بنِ يوسفَ، والقَعْنبيِّ، وقُتيبةَ، ويحيى بنِ يحيى، وغيرهم‏.‏ قال الخطيبُ‏:‏ وقد وَهِمَ فيها ابنُ أبي مريمَ على مالكٍ، عن ابنِ شهابٍ‏.‏ وإنّما يرويها مالكٌ في حديثِهِ عن أبي الزِّنادِ‏.‏

221‏.‏ وَمِنْهُ مَتْنٌ عَنْ جَمَاعَةٍ وَرَدْ *** وَبَعْضُهُمْ خَالَفَ بَعْضَاً في السَّنَدْ

222‏.‏ فَيَجْمَعُ الكُلَّ بإسْنَادٍ ذَكَرْ *** كَمَتْنِ ‏(‏أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ‏)‏ الخَبَرْ

223‏.‏ فَإنَّ ‏(‏عَمْرَاً‏)‏ عِنْدَ ‏(‏وَاصِلٍ‏)‏ فَقَطْ *** بَيْنَ ‏(‏شَقيْقٍ‏)‏ وَ ‏(‏ابْنِ مَسْعُوْدٍ‏)‏ سَقَطْ

224‏.‏ وَزَادَ ‏(‏الاعْمَشُ‏)‏ كَذَا ‏(‏مَنْصُوْرُ‏)‏ *** وَعَمْدُ الادْرَاجِ لَهَا مَحْظُوْرُ

أي‏:‏ ومن أقسامِ المدرجِ، وهو القسمُ الرابعُ‏:‏ أنْ يرويَ بعضُ الرواةِ حديثاً عن جماعةٍ، وبَيْنهم في إسنادهِ اختلافٌ فيجمعُ الكلَّ على إسنادٍ واحدٍ ممّا اختلفوا فيه، ويدرجُ روايةَ مَنْ خالفَهم معهم على الاتفاقِ‏.‏

مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواه الترمذيُّ، عن بُنْدَارٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ عن سفيانَ الثوريِّ، عن واصلٍ، ومنصورٍ، والأعمشِ، عن أبي وائلٍ، عن عمرِو بنِ شُرَحْبِيلَ، عن عبدِ اللهِ، قال‏:‏ «قلتُ‏:‏ يا رسولَ اللهِ، أيُّ الذنبِ أعظَمُ‏؟‏ …» الحديثَ‏.‏ وهكذا رواهُ محمدُ بنُ كثيرٍ العبديُّ، عن سفيانَ فيما رواهُ الخطيبُ‏.‏ فروايةُ واصلٍ هذهِ مدرجةٌ على روايةِ منصورٍ، والأعمشِ؛ لأنَّ واصلاً لا يذكرُ فيه عمراً، بل يجعلُهُ عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ، هكذا‏.‏ رواه شعبةُ، ومهديُّ بنُ ميمونٍ، ومالكُ بنُ مِغْولٍ، وسعيدُ بنُ مسروقٍ، عن واصلٍ، كما ذكرَهُ الخطيبُ‏.‏

وقد بَيَّنَ الإسنادَيْنِ معاً يحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ في روايتهِ، عن سفيانَ، وفَصَلَ أحدَهُما من الآخرِ‏.‏ رواه البخاريُّ في صحيحهِ في ‏"‏كتابِ المحاربينَ‏"‏ عن عمرِو بنِ عليٍّ، عن يحيى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، والأعمشِ؛ كلاهما عن أبي وائلٍ، عن عمرٍو، عن عبدِ اللهِ، وعن سفيانَ، عن واصلٍ، عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ، من غيرِ ذكرِ عمرِو بنِ شرحبيلَ‏.‏ قال عمرُو بنُ عليٍّ‏:‏ فذكرتُهُ لعبدِ الرحمنِ، وكان حدّثنا عن سفيانَ، عن الأعمشِ، ومنصورٍ وواصلٍ، عن أبي وائلٍ، عن أبي مَيْسرةَ، يعني‏:‏ عمراً، فقال‏:‏ دَعْهُ دَعْهُ‏.‏

قلتُ‏:‏ لكن رواهُ النسائيُّ في المحاربةِ، عن بُنْدارٍ، عن ابنِ مهديٍّ، عن سفيانَ، عن واصلٍ- وَحْدَهُ-، عن أبي وائلٍ، عن عمرِو بنِ شُرْحَبيلَ، فزادَ في السند عمْراً من غير ذكرِ أحدٍ، أدرجَ عليه روايةَ واصلٍ‏.‏ وكأنَّ ابنَ مهديٍّ لمّا حدَّثَ به عن سفيانَ، عن منصورٍ، والأعمشِ، وواصلٍ، بإسنادٍ واحدٍ ظنَّ الرواةُ عن ابنِ مهديٍّ اتفاقَ طرقِهِم، فربَّما اقتصرَ أحدُهم على بعضِ شيوخِ سفيانَ، ولهذا لا ينبغي لمَنْ يروي حديثاً بسندٍ فيه جماعةٌ في طبقةٍ واحدةٍ مجتمعين في الرواية عن شيخٍ واحدٍ، أن يحذفَ بعضَهم؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ اللفظُ في السندِ أو المتنِ لأحدِهم وحملَ روايةَ الباقينَ عليه‏.‏ فربَّما كانَ مَنْ حَذَفَهُ هو صاحبُ ذلكَ اللفظِ، وسيأتي التنبيهُ على ذلكَ في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وزادَ الأعمشُ‏)‏ أي‏:‏ وزادَ الأعمشُ، ومنصورٌ، ذِكْرَ عمرِو بنِ شُرحبيلَ بين شَقيقٍ، وابنِ مسعودٍ؛ على أنَّهُ قد اختُلِفَ على الأعمشِ في زيادةِ عمرِو بنِ شرحبيلَ اختلافاً كثيراً، ذكرَهُ الخطيبُ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وعَمْدُ الادراجِ لها‏)‏ أي‏:‏ لهذهِ الأقسامِ الأربعةِ، أو الخمسةِ‏.‏ محظورٌ، أي‏:‏ ممنوعٌ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ واعلمْ أنَّهُ لا يجوزُ تعمُّدُ شيءٍ مِنَ الادراجِ المذكورِ‏.‏ وهذا النوعُ قد صنَّفَ فيه الخطيبُ، فشَفَى وكَفَى‏.‏

المَوْضُوْعُ

225‏.‏ شَرُّ الضَّعِيْفِ‏:‏ الخَبَرُ الموضُوْعُ *** الكَذِبُ، المُختَلَقُ، المَصْنُوْعُ

226‏.‏ وَكَيْفَ كَانَ لَمْ يُجِيْزُوا ذِكْرَهُ *** لِمَنْ عَلِمْ، مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهُ

227‏.‏ وَأكْثَرَ الجَامِعُ فِيْهِ إذْ خَرَجْ *** لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ، عَنَى‏:‏ أبَا الفَرَجْ

أي‏:‏ شرُّ الأحاديثِ الضعيفةِ‏:‏ الموضوعُ، وهو المكذوبُ، ويقالُ له‏:‏ المختلَقُ المصنوعُ، أي‏:‏ إنَّ واضعَهُ اختلقَهُ وصنَعَهُ‏.‏ وهذا هو الصوابُ، كما ذكره ابنُ الصلاحِ هنا‏.‏ وأما قولُهُ في قسمِ الضعيفِ‏:‏ إنَّ ما عُدِمَ فيه جميعُ صفاتِ الحديثِ الصحيحِ والحسنِ، هو القسمُ الآخِرُ الأَرذَلُ؛ فَهُوَ محمولٌ عَلَى أنَّهُ أرادَ ما لَمْ يكنْ موضوعاً، اللهمَّ إلا أن يريدَ بفَقْدِ ثقةِ الرَّاوِي أنْ يكونَ كذّاباً‏.‏ ومعَ هَذَا فَلاَ يلزمُ مِنْ وُجودِ كذّابٍ في السندِ أنْ يكونَ الحديثُ موضوعاً، إذ مطلقُ كذبِ الرَّاوِي لا يدلُّ عَلَى الوضعِ، إلا أنْ يعترفَ بوضعِ هَذَا الحديثِ بعينِهِ، أو ما يقومُ مقامَ اعترافِهِ عَلَى ما ستقفُ عَلَيْهِ‏.‏ وكيفَ كَانَ الموضوعُ، أي‏:‏ في أيِّ معنى كانَ، في الأحكامِ أو القصصِ، أو الترغيبِ والترهيبِ، وغيرِ ذَلِكَ‏.‏ لَمْ يجيزوا لمنْ علمَ أنَّهُ موضوعٌ أنْ يذكرَهُ بروايةٍ، أو احتجاجٍ، أو ترغيبٍ إلا معَ بيانِ أنّهُ موضوعٌ، بخلافِ غيرِهِ من الضعيفِ المحتملِ للصدقِ، حَيْثُ جوّزوا روايتَهُ في الترغيبِ والترهيبِ، كَمَا سيأتي‏.‏ قَالَ ابنُ الصَّلاَح‏:‏ ولقد أكثرَ الَّذِي جمعَ في هَذَا العصرِ الموضوعاتِ في نَحْوِ مُجَلّدَيْنِ، فأودَعَ فِيْهَا كثيراً مِنْهَا، لا دليلَ عَلَى وضعِهِ، وإنّما حقُّهُ أنْ يُذكرَ في مطلقِ الأحاديثِ الضعيفةِ‏.‏ وأراد ابنُ الصلاحِ بالجامعِ المذكورِ، أبا الفَرَجِ بنَ الجَوْزيِّ‏.‏ وأشرتُ إِلَى ذلكَ بقولي‏:‏ ‏(‏عَنَى‏:‏ أبا الفرجِ‏)‏‏.‏

228‏.‏ وَالوَاضِعُوْنَ لِلحَدِيْثِ أضْرُبُ *** أَضَرُّهُمْ قَوْمٌ لِزُهْدٍ نُسِبُوا

229‏.‏ قَدْ وَضَعُوْهَا حِسْبَةً، فَقُبِلَتْ *** مِنْهُمْ، رُكُوْناً لَهُمُ ونُقِلَتْ

230‏.‏ فَقَيَّضَ اللهُ لَهَا نُقَّادَهَا *** فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا

231‏.‏ نَحْوَ أبي عِصْمَةَ إذْ رَأَى الوَرَى *** زَعْمَاً نَأوْا عَنِ القُرَانِ، فافْتَرَى

232‏.‏ لَهُمْ حَدِيْثَاً في فَضَائِلِ السُّوَرْ *** عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فبئسَمَا ابْتَكَرْ

233‏.‏ كَذَا الحَدِيْثُ عَنْ أُبَيٍّ اعْتَرَفْ *** رَاوِيْهِ بِالوَضْعِ، وَبِئسَمَا اقتَرَفْ

234‏.‏ وَكُلُّ مَنْ أوْدَعَهُ كِتَابَهْ *** كَالوَاحِدِيِّ مُخْطِئٌ صَوَابَهْ

الواضعونَ للحديثِ عَلَى أصنافٍ بحسبِ الأمرِ الحاملِ لَهُمْ عَلَى الوضعِ‏.‏

فضربٌ من الزَّنادقةِ يفعلونَ ذَلِكَ؛ ليُضلوا به الناسَ، كعبدِ الكريمِ بنِ أبي

العَوجاءِ الذي أمرَ بضربِ عُنقِهِ محمدُ بنُ سليمانَ بنِ عليِّ، وكبَيَانٍ الذي قتَلهُ خالدُ القَسْريُّ، وحرقَهُ بالنارِ‏.‏ وقدْ رَوَى العُقيليُّ بسندِهِ إلى حمّادِ بنِ زيدٍ قالَ‏:‏ وضعتِ الزنادقةُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أربعةَ عشرَ ألفَ حديثٍ‏.‏

وضربٌ يفعلونَهُ انتصاراً لمذاهبِهِم، كالخَطَّابيّةِ والرافضةِ، وقومٍ من السَّالميةِ‏.‏

وضربٌ يتقربونَ لبعضِ الخلفاءِ والأمراءِ بوضعِ ما يوافقُ فعلَهُم وآراءهم، كغِياثِ بنِ إبراهيمَ، حيثُ وضعَ للمهدي في حديث‏:‏ «لا سَبَقَ إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حافرٍ»‏.‏ فزادَ فيه‏:‏ أو جَناحٍ‏.‏ وكان المهديُّ إذ ذاك يلعبُ بالحَمَامِ فتركهَا بعد ذلك وأمرَ بذبحِها، وقال أنا حملتُهُ على ذلك‏.‏

وضربٌ كانوا يتكسَّبُونَ بذلك ويرتزِقُونَ به في قَصَصِهم، كأبي سعدٍ المدائنيِّ‏.‏

وضَرْبٌ امتُحِنوا بأولادٍ لهم أو ورّاقينَ فوضعُوا لهم أحاديثَ ودَسُّوها عليهم، فحدّثوا بها من غيرِ أنْ يَشْعُروا، كعبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ ربيعةَ القُدَامِيِّ‏.‏

وضربٌ يلجؤونَ إلى إقامةِ دليلٍ على ما أفتوا به بآرائِهِم، فيضعُونَ، كما نُقِلَ عن أبي الخطّابِ بنِ دِحْيةَ، إنْ ثَبَتَ عنه‏.‏

وضربٌ يَقلِبُونَ سَنَدَ الحديثِ؛ ليُستَغْرَبَ، فيُرغَبَ في سماعِهِ منهم، وسيأتي ذلكَ بعدَ هذا في المقلوبِ‏.‏

وضربٌ يتديّنُونَ بذلكَ لترغيبِ الناسِ في أفعالِ الخيرِ بزعمِهِم، وهم منسوبُونَ إلى الزُّهْدِ، وهم أعظمُ الأصنافِ ضرراً؛ لأنَّهم يحتسِبُونَ بذلكَ، ويرونَهُ قربةً، فلا يمكنُ تركُهم لذلك‏.‏ والناسُ يَثِقُون بهم، ويركنونَ إليهم لما نُسِبُوا له من الزهدِ، والصلاحِ، فينقلونَها عنهم‏.‏ ولهذا قالَ يحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ‏:‏ ما رأيتُ الصَّالحينَ أكذبَ منهم في الحديثِ‏.‏ يريدُ بذلكَ- واللهُ أعلم- المنسوبينَ للصلاحِ بغيرِ علمٍ يفرّقُونَ بهِ بينَ ما يجوزُ لهم ويمتنعُ عليهم‏.‏ يدلُّ على ذلكَ ما رواهُ ابنُ عَدِيٍّ والعُقيليِّ بسندِهما الصحيحِ إليه أنّهُ قال‏:‏ ما رأيتُ الكذبَ في أحدٍ أكثرَ منه فيمَنْ يُنسَبُ إلى الخيرِ‏.‏ أو أرادَ أنَّ الصالحينَ عندَهم حسنُ ظنٍّ، وسلامةُ صدرٍ، فيحمِلونَ ما سمِعَوه على الصدقِ، ولا يهتدونَ لتمييزِ الخطأ من الصوابِ‏.‏

ولكن الواضعون ممَّنْ يُنْسَبُ للصلاحِ، وإنْ خَفِيَ حالُهم على كثيرٍ من الناسِ، فإنّه لم يَخْفَ على جَهابِذَةِ الحديثِ، ونقّادِهِ‏.‏ فقاموا بأعباءِ ما حُمِّلُواْ فتحمَّلوهُ، فكشفُوا عُوَارَها، ومَحَوا عَارَها‏.‏ حتى لقد روينا عن سفيانَ قال‏:‏ ما سترَ اللهُ أحداً بكذبٍ في الحديثِ‏.‏ وروينا عن عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ أنهُ قال‏:‏ لو أنَّ رجلاً هَمَّ أنْ يكذبَ في الحديثِ، لأسقَطَهُ اللهُ تعالى‏.‏ وروينا عن ابنِ المباركِ قال‏:‏ لو هَمَّ رجلٌ في السَّحرِ أنْ يكذبَ في الحديثِ، لأصبحَ والناسُ يقولون فلانٌ كذّابٌ‏.‏ وروينا عنه أنّهُ قيل له‏:‏ هذهِ الأحاديثُ المصنوعةُ، فقال‏:‏ تعيشُ لها الجَهَابِذةُ ‏{‏إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ‏}‏‏.‏ وروينا عن القاسمِ بنِ محمدٍ أنّهُ قال‏:‏ إنَّ الله أعانَنَا على الكذّابينَ بالنسيانِ‏.‏

ومثالُ مَنْ كان يضعُ الحديثَ حِسْبةً، ما رويناه عن أبي عِصْمَة نُوحِ بنِ أبي مريمَ المروزيِّ- قاضي مَرْو-، فيما رواهُ الحاكمُ بسندهِ إلى أبي عمّارٍ المروزيِّ أنّهُ قيل لأبي عصمةَ‏:‏ مِن أين لك عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عبّاسٍ في فضائلِ القرآنِ سورةً سورةً، وليس عند أصحابِ عكرمةَ هذا‏؟‏‏!‏ فَقَالَ‏:‏ إنّي رأيتُ الناسَ قَدْ أعرضُوا عن القرآنِ، واشتغلوا بفقهِ أبي حنيفةَ، ومغازي محمدِ بنِ إسحاقَ، فوضعتُ هَذَا الحديثَ حِسْبةً‏.‏ وَكَانَ يُقال لأبي عصمةَ هَذَا نوحٌ الجامعُ‏.‏ فَقَالَ أبو حاتمٍ ابنُ حبّانَ‏:‏ جمعَ كلَّ شيءٍ إلا الصدقَ‏.‏ وَقَالَ أبو عبدِ اللهِ الحاكمُ‏:‏ وضعَ حديثَ فضائلِ القرآنِ‏.‏ وروى ابنُ حبّانَ في مقدّمةِ ‏"‏تاريخِ الضُّعفاءِ‏"‏، عن ابنِ مهديٍّ قال‏:‏ قلتُ لِمَيْسرة بن عبدِ ربِّهِ‏:‏ من أين جئت بهذهِ الأحاديثِ مَنْ قرأ كذا فلَهُ كذا‏؟‏ قال‏:‏ وضعتُها أُرَغِّبُ الناسَ فيها‏.‏ وهكذا حديثُ أُبَيٍّ الطويلُ في فضائلِ قراءةِ سُوَرِ القرآنِ سُورةً سورةً‏.‏ فروينا عن المؤمَّل بنِ إسماعيلَ، قال‏:‏ حدّثني شيخٌ به‏.‏ فقلتُ للشيخِ مَنْ حدّثكَ‏؟‏ فقالَ‏:‏ حدّثني رجلٌ بالمدائنِ- وهو حيٌّ- فصرتُ إليهِ، فقلتُ‏:‏ مَنْ حدّثَكَ‏؟‏ فقال‏:‏ حدّثني شيخٌ بواسطَ- وهو حيٌّ- فصرتُ إليه، فقال‏:‏ حدثني شيخٌ بالبصرةِ، فصرتُ إليه، فقال‏:‏ حدثني شيخٌ بعبادانَ، فصرتُ إليه، فأخَذَ بيدي، فأدخلني بيتاً، فإذا فيه قومٌ من المتصوّفِةِ، ومعهم شيخٌ، فقالَ هذا الشيخُ حدّثني، فقلتُ‏:‏ يا شيخُ مَنْ حدّثكَ‏؟‏ فقال‏:‏ لم يحدّثني أحدٌ‏.‏ ولكنَّا رأينا الناسَ قد رغبُوا عن القرآنِ، فوضَعنا لهم هذا الحديثَ؛ ليصرفُوا قُلوبَهم إِلَى القرآنِ‏.‏

وكلُّ مَنْ أودعَ حديثَ أُبَيٍّ- المذكورِ- تفسيرَهُ، كالواحديِّ، والثَّعْلبيِّ والزَّمَخْشَريِّ مخطئٌ في ذلكَ؛ لكنّ من أبرزَ إسنادَهُ منهم، كالثعلبيِّ، والواحديِّ فهو أبسطُ لِعُذْرِهِ، إذ أحالَ ناظرَهُ على الكشفِ عن سندِهِ، وإنْ كان لا يجوزُ له السكوتُ عليه من غيرِ بيانِهِ، كما تقدّمَ‏.‏ وأمَّا مَنْ لم يُبْرِزْ سنَدَهُ، وأوردَهُ بصيغةِ الجزمِ فخطؤُهُ أفحشُ، كالزَّمخشريِّ‏.‏

235‏.‏ وَجَوَّزَ الوَضْعَ عَلَى التَّرْغِيْبِ *** قَوْمُ ابنِ كَرَّامٍ، وَفي التَّرْهِيْبِ

ذكرَ الإمامُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ منصورٍ السَّمعانيُّ‏:‏ أنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ ذهبَ إلى جوازِ وضعِ الحديثِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيما لا يتعلقُ به حكمٌ من الثوابِ والعقابِ ترغيباً للنَّاسِ في الطاعةِ، وزجْرَاً لهم عن المعصيةِ‏.‏ واستدلوا بما رُويَ في بعضِ طُرقِ الحديثِ‏:‏ «مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمِّداً-ليُضِلَّ بهِ الناسَ- فلْيَتبوَّأْ مَقْعدَهُ من النارِ»‏.‏ وحملَ بعضُهم حديثَ مَنْ كذبَ عليَّ، أي‏:‏ قالَ‏:‏ إنّهُ ساحرٌ أو مجنونٌ‏.‏ وقال بعضُ المخذُولِينَ‏:‏ إنّما قالَ مَنْ كَذَبَ عليَّ، ونحنُ نكذبُ لَهُ ونقوِّي شَرعَهُ‏.‏ نسألُ اللهَ السلامةَ من الخِذْلانِ‏.‏

وروى العُقيليُّ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ سعيدٍ- كأنَّهُ المَصْلُوبُ- قال‏:‏ «لا بأسَ إذا كانَ كلامٌ حسنٌ أنْ تضعَ له إسناداً»‏.‏ وحكى القُرْطبيُّ في ‏"‏ المُفْهِم ‏"‏ عن بعضِ أهلِ الرأي أنَّ ما وافقَ القياسَ الجليَّ جازَ أنْ يُعزَى إِلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى ابنُ حبّانَ في مقدّمةِ ‏"‏ تاريخِ الضُّعفاءِ ‏"‏ بإسنادِهِ إلى عبدِ اللهِ بنِ يزيدَ المقريء‏:‏ أنَّ رجلاً من أهلِ البِدَعِ رجعَ عن بدعتِهِ، فجعلَ يقولُ‏:‏ انظروا هذا الحديثَ عمَّنْ تأخذونَهُ، فإنّا كُنَّا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً‏.‏

236‏.‏ وَالوَاضِعُوْنَبَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا *** مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَبَعْضٌ وَضَعَا

237‏.‏ كَلامَ بَعْضِ الحُكَمَا في المُسْنَدِ *** وَمِنْهُ نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدِ

238‏.‏ نَحْوُ حَدِيْثِ ثَابِتٍ ‏(‏مَنْ كَثُرَتْ *** صَلاَتُهُ‏)‏ الحَدِيْثَ، وَهْلَةٌ سَرَتْ

ثُمَّ الواضعونَ منهم مَنْ يَضَعُ كلاماً من عندِ نفسِهِ، ويرويه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومنهم من يأخُذُ كلامَ بعضِ الحُكَماءِ، أو بعضِ الزُّهادِ، أو الإسرائلياتِ فيجعلُهُ حديثاً نحو حديثِ‏:‏ «حبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئةٍ»‏.‏ فإنّه إمّا من كلامِ مالكِ بن دينارٍ، كما رواهُ ابنُ أبي الدنيا في كتابِ ‏"‏ مكايدِ الشيطانِ ‏"‏ بإسنَادِهِ إليه‏.‏ وإمَّا هو مرويٌّ من كلامِ عيسى بنِ مريمَ عليه السلام، كما رواه البيهقيُّ في كتابِ ‏"‏ الزهدِ ‏"‏، ولا أصلَ لَهُ من حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، إلا من مراسيلِ الحسنِ البصريِّ، كما رواهُ البيهقيُّ في ‏"‏ شعبِ الإيمانِ ‏"‏ في البابِ الحادي والسبعين منه‏.‏ ومراسيلُ الحسن عندَهم شِبْهُ الريحِ‏.‏

وكالحديثِ الموضوعِ‏:‏ «المَعِدةُ بيتُ الداءِ، والحِمْيَةُ رأسُ الدَّواءِ»‏.‏ فهذا من كلامِ بعضِ الأطباءِ، لا أصلَ له عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن أقسامِ الموضوعِ‏:‏ ما لم يُقْصَدْ وضعهُ، وإنّما وهمَ فيه بعضُ الرواةِ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنّهُ شبهُ الوضعِ، كحديثٍ رواهُ ابنُ ماجه، عن إسماعيلَ بنِ محمدَ الطَّلْحِيِّ، عن ثابتِ بنِ موسى الزاهدِ، عن شَرِيكٍ، عن الأعمشِ، عن أبي سُفيانَ، عن جابرٍ مرفوعاً‏:‏ «مَنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ باللَّيلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهارِ»‏.‏

قال أبو حاتمٍ الرازيُّ‏:‏ كتبتُهُ عن ثابتٍ فذكرتُهُ لابن نُميرٍ، فقال الشيخُ- يعني ثابتاً- لا بأسَ به‏.‏ والحديثُ منكرٌ‏.‏ قال أبو حاتمٍ‏:‏ والحديثُ موضوعٌ‏.‏ وقال الحاكمُ‏:‏ دخلَ ثابتُ بنُ موسى على شَريكِ بنِ عبدِ اللهِ القاضي، والمُستملي بين يديهِ، وشريكٌ يقول‏:‏ حدّثنا الأعمشُ، عن أبي سفيانَ، عن جابرِ، قال‏:‏ قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولم يذكرِ المتْنَ‏.‏ فلما نظرَ إلى ثابتِ بنِ موسى قالَ‏:‏ «مَنْ كثُرتْ صلاتُهُ بالليلِ حسُن وجههُ بالنهارِ» وإنَّما أرادَ ثابتاً لزهدِهِ وورعِهِ، فظنَّ ثابتٌ أنّه رُوِيَ هذا الحديثُ مرفوعاً بهذا الإسنادِ، فكان ثابتٌ يحدّثُ به عن شريكٍ، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرِ، وقالَ ابنُ حبّانَ‏:‏ وهذا قولُ شريك‏.‏ قالَهُ عَقِبَ حديثِ الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرِ‏:‏ «يَعْقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم»‏.‏ فأدرجهُ ثابتٌ في الخبرِ، ثمَّ سَرَقَهُ منهجماعةٌ ضعفاءُ، وحدّثوا به عن شريكٍ؛ فعلى هَذَا هُوَ من أقسامِ المدرجِ‏.‏

وقالَ ابنُ عديٍّ‏:‏ إنّهُ حديثٌ منكرٌ لا يُعرفُ إلا بثابتٍ، وسرقَهُ مِنْهُ من الضُّعفاء عبدُ الحميدِ بنُ بحرٍ، وعبدُ اللهِ بنُ شبرمةَ الشَّريكيُّ، وإسحاقُ بن بشرٍ الكَاهليُّ، وموسى بنُ محمدٍ أبو الطاهرِالمقدسيُّ‏.‏ قَالَ‏:‏ وحدّثنا بِهِ بعضُ الضِّعاف عن زحمويهِ، وكذب؛ فإنَّ زحمويهِ ثقةٌ‏.‏ قَالَ وبلغني عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بن نميرٍ أنّهُ ذُكرَ لَهُ هَذَا الحديثُ، عن ثابتٍ، فَقَالَ‏:‏ باطلٌ، شُبِّهَ عَلَى ثابتٍ؛ وذلكَ أنَّ شريكاً كان مَزَّاحاً، وكانَ ثابتٌ رجلاً صالحاً فيشبهُ أن يكونَ ثابتٌ دخلَ على شَرِيكٍ، وكان شريكٌ يقولُ‏:‏ حدثنا الأعمشُ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فالتفَتَ فرأى ثابتاً فقال يُمازِحُه‏:‏ «مَنْ كثُرت صلاتُهُ بالليلِ حسُن وجهُهُ بالنهارِ»‏.‏ فظنَّ ثابتٌ لغفلتِهِ أنَّ هذا الكلامَ الذي قالَهُ شريكٌ، هو متنُ الإسنادِ الذي قرأهُ فحملَهُ على ذلك‏.‏ وإنَّما ذلك قولُ شريكٍ‏.‏ وقال العقيليُّ‏:‏ إنّهُ حديثٌ باطلٌ، ليس له أصلٌ ولا يتابعهُ عليه ثقةٌ‏.‏ وقال عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ‏:‏ كُلُّ مَنْ حَدَّثَ به عن شريكٍ، فهو غيرُ ثقةٍ‏.‏ وقد قالَ ابنُ معينٍ في ثابتٍ هذا‏:‏ إنّهُ كذَّابٌ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وَهْلَةٌ‏)‏ أي‏:‏ غَفْلَةٌ‏.‏ ومنه‏:‏ قولُ عائشةَ رضي اللهُ عنها في الحديثِ الصحيحِ‏:‏ «إنَّهُ لم يكذبْ ولكنَّهُ وَهِلَ»، أي‏:‏ ذهبَ وَهْمُهُ إلى ذلك‏.‏

239‏.‏ وَيُعْرَفُ الوَضْعُ بِالإقْرَارِ، وَمَا *** نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَرُبَّمَا

240‏.‏ يُعْرَفُ بِالرِّكَةِ، قُلْتُ‏:‏ اسْتَشْكَلاَ *** ‏(‏الثَّبَجِيُّ‏)‏ القَطْعَ بِالوَضْعِ عَلَى

241‏.‏ مَا اعْتَرَفَ الوَاضِعُ، إذْ قَدْ يَكْذِبُ *** بَلَى نَرُدُّهُ، وَعَنْهُ نُضْرِبُ

قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وإنّما يُعرف كونُ الحديثِ موضوعاً، بإقرارِ واضعِهِ أو ما يتنزلُ منزلةَ إقرارِهِ‏.‏ قال‏:‏ وقد يفهمُونَ الوضعَ من قرينةِ حالِ الراوي، أو المروِيِّ فقد وُضِعتْ أحاديثُ طويلةٌ يشهدُ بوضعِها رَكاكةُ ألفاظِها ومَعانِيها‏.‏ انتهى‏.‏ وروينا عن الربيعِ بنِ خُثَيْمٍ قال‏:‏ إنَّ للحديثِ ضَوْءاً كضَوْءِ النهارِ، تعرفُهُ؛ وظُلمةً كظلمةِ الليلِ تُنْكِرُهُ‏.‏

قال ابنُ الجوزيِّ‏:‏ واعلمْ أنَّ الحديثَ المُنكرَ يقشعرُّ له جلدُ الطالبِ‏.‏ للعلمِ ويَنْفُرُ مِنْهُ قلبُهُ في الغالبِ‏.‏ وَقَدْ استشكلَ ابنُ دقيقِ العيدِ الاعتمادَ عَلَى إقرارِ الرَّاوِي بالوضعِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ هَذَا كافٍ في رَدِّهِ لَكِنْ لَيْسَ بقاطعٍ في كونِهِ موضوعاً؛ لجوازِ أنْ يكذبَ في هذا الإقرارِ بعينِهِ‏.‏ وهذا هو المعنيُّ بقولي‏:‏ ‏(‏استشكلَ الثَّبَجِي‏)‏، وهو ابنُ دقيقِ العيدِ، وربّما كان يكتبُ هذهِ النسبةَ في خَطِّهِ، لأنّهُ ولد بثَبَجِ البحرِ بساحلِ يَنْبُعَ من الحِجازِ‏.‏ ومنهُ الحديثُ الصحيحُ‏:‏ «يَرْكَبُوْنَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ»، أي‏:‏ ظَهْرَهُ، وقيلَ‏:‏ وَسَطَهُ‏.‏